في سلسلة من العظات التي ألقاها البطريرك الماروني بشارة الراعي، وفي خضم الأزمات الكيانية التي يمر بها لبنان على أكثر من صعيد، دعا إلى ثلاثة أمور اعتبر أنها تشكل خشبة الخلاص للبلد المنكوب: استعادة الشرعية والحياد وتطبيق القرارات الدولية. كلام رأس الكنيسة المارونية حرّك الرتابة السياسية في البلاد عبر سيل من الردود والمواقف مؤيدة كانت أم مناهضة. إنما اللافت أن مجمل النقاش الذي استتبع كلامه ركز على الحياد وأهمل إلى حد كبير مسألة استعادة الشرعية كأن مسألة غياب الدولة باتت في الوعي واللاوعي الجماعي اللبناني أمراً واقعاً لا يمكن الالتفاف عليه أو تصحيحه أو حتى إثارته. واللافت أيضاً في كلام البطريرك نفسه أنه اعتمد التورية ولم يكن مباشراً، أي لجأ إلى هذه المفاهيم الدستورية والقانونية بدلاً من تسليط الضوء بوضوح على «لبّ» كل الأزمات في لبنان، أي سلاح «حزب الله» ودوره الداخلي والإقليمي، وما استتبعه من اختلال في التوازنات الداخلية عبر سيطرته على مفاصل الدولة وفي التوازنات الخارجية عبر سياسة خارجية أدخلت البلاد في سياسات المحاور الإقليمية وجعلتها ترزح تحت وطأة تأثيراتها السلبية.
وفي حين أعاد البطريرك تصويب كلامه في حديث لإذاعة الفاتيكان عندما قال: «يوجد نوع من هيمنة يمارسها (حزب الله) على الحكومة والسياسة اللبنانية بسبب دخوله في حروب وتحالفات عربية ودولية، لا يريدها لبنان بالأساس، وهذا خلق أزمة سياسية كبيرة أثمرت أزمة اقتصادية ومالية حادة للغاية، وتحييد لبنان هو الحل»، بقي مكمن الوهن في السجال الحاصل عقب كلامه في إغفال مطلبه الأول، أي استعادة الشرعية وغياب الدولة اللبنانية التي خطفها «حزب الله» لينفذ أجندة إيرانية في الإقليم، فبدا كأن الموضوع برمته قضية دستورية وقانونية بحتة، وأن المطلوب هو التوجه إلى استفتاء حول أي نموذج من الحياد يمكن أن يستسيغه اللبنانيون، وقد شُرح بالفعل في معرض النقاشات النموذج السويسري والنمساوي والسويدي في ترف في غير محله.
إن أي طرح لموضوع الحياد في ظلّ غياب دولة تستطيع أن تجعله واقعاً، هو كمن يضع العربة قبل الحصان، وعليه، فإن كلام الراعي عن ضرورة استعادة الدولة لشرعيتها ودورها ودستورها وقوانينها وأعرافها، هو مدخل أساس لحل مشاكل البلد السياسية أولاً ومن ثم الاقتصادية والمالية. وأي نقاش جدي لدعوة البطريرك للحياد يكون عبر وضعها في إطارها الصحيح، أي الاعتراف بأنها موجهة مباشرة إلى «حزب الله» وتطالبه بفك قبضته الحديدية عن الدولة ومؤسساتها ودستورها وقوانينها وعدم زجها في محاور لا تشببها. إن ضرب «حزب الله» قرار الحكومة اللبنانية النأي بالنفس عقب اندلاع الحرب في سوريا، خير دليل على أن الحياد من دون رضا «حزب الله» لن يجدي نفعاً في ظل غياب الدولة القادرة.
أظهر كلام البطريرك حجم التجاذب السياسي في البلاد. فالحملة التي شنت رداً على كلامه لا سيّما في الأوساط الشيعية، وصلت إلى حدّ الإسفاف والردود غير المعتادة بين السياسيين ورجال الدين اللبنانيين، ونجحت في تبيان حجم المخاطر وفضحت حقيقة الحال اللبنانية مؤكدة أمرين:
الأول أن الطائفة الشيعية المخطوفة غير قادرة على الخروج من عباءة «حزب الله»، والثاني أن الحزب نجح في خطف جزء من المسيحيين، في سياسة تغرقنا أكثر في سيناريو تحالف الأقليات المخيف. وليس أكثر تعبيراً عن هذه الحقيقة المؤسفة سوى موقف الوزير جبران باسيل فور خروجه من الاجتماع مع البطريرك، فقرأ كلمة مكتوبة ومعدّة سلفاً تؤيد في الظاهر كلام الراعي بينما تنسف فعلياً مضمونها بالكامل، وتماهت بشكل فج مع أدبيات «حزب الله» باعتبارها أن الحياد موضوع يحتاج إلى إجماع وطني وأن على لبنان الاحتفاظ بعناصر القوة التي لديه، والمقصود بها طبعاً سلاح وسياسة «حزب الله» أساس المشكلة.
وإذ ثُبت عمق التحالف بين التيار الوطني الحرّ و«حزب الله»، فإن موقف رئيس الحكومة حسان دياب تطابق أيضاً معهما، وبانتظار أن نستمع إلى موقف رئيس المجلس النيابي، يمكننا القول إن المشكلة في لبنان باتت في استعصاء قاتل وتبدو أكبر من مبادرات على غرار مبادرة البطريرك الحميدة.
تبقى العودة إلى بيت القصيد وهو استعادة الدولة المغيبة أو المخطوفة. في الواقع، الدولة اللبنانية معطلة منذ عام 1969، بمعنى أن صناعة القرار في البلاد لم تكن محلية بل رهن سلطة أجنبية، بدءاً بتدخل منظمة التحرير الفلسطينية بالشؤون اللبنانية والأدوار المتنامية التي لعبتها حتى خروجها من لبنان عام 1982، مروراً بالتدخل السوري في مرحلتيه؛ الأولى تحت ذريعة إنقاذ المسيحيين ولعب دور متوازن، والثانية عندما دخل الجيش السوري كقوة ردع واستحال ذلك احتلالاً سورياً حتى خروجه عقب اغتيال الرئيس رفيق الحريري وتسليمه صناعة القرار إلى إيران عبر ذراعها المحلية، «حزب الله».
ولا بدّ من التذكير بأن الدور الذي لعبه النظام السوري لا سيما بعد تسلم حافظ الأسد السلطة في عام 1970 لجهة التلاعب بالقرار اللبناني والهيمنة عليه، كان أساسياً في تسهيل تمدد إيران إلى لبنان وتمكنها، عبر السنوات، من إحكام سيطرتها على حيّز كبير من الحياة السياسية والأمنية اللبنانية، بحيث تخطى حجم «حزب الله» الدولة فابتلعها، وليست ترسانته العسكرية الضخمة إلا دليلاً على ذلك، مع ما لحق ذلك من تدخل في الحرب السورية لإنقاذ النظام الذي يعتبر الرئة الحيوية التي يتنفس منها.
المشكلة إذن لا يمكن أن تُحل على مستوى لبناني فقط، بل هي مرتبطة بتغييرات في الإقليم قد تتأتى عن مآلات حرب قائمة أصلاً بين إسرائيل والولايات المتحدة وإيران، وليس بالضرورة أن تتحوّل حرباً عسكرية كبيرة قد تؤدي إلى غلبة فريق على آخر، أو عبر تسوية قد تكون لصالح لبنان أو على حسابه، أو من خلال جرعات من المساعدات الغذائية والطبية والتربوية وغيرها التي لا تسمح بموته ولا بإنقاذه.
لعل زيارة وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان منذ أيام وما يحكى عن خطة إنقاذية سوف يعلن عنها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون تصب في الخانة الأخيرة، وهذا هو السيناريو الأكثر ترجيحاً الذي إن حصل، يطيل أمد الاحتضار اللبناني. المطلوب عودة لبنان إلى طبيعته ودوره وليس معونات غذائية وطبية وغيرها على غرار ما يقدم للنازحين واللاجئين.
وتجدر الإشارة إلى أنه حتى اللحظة فإن دعوة البطريرك على الرغم من التأييد والمساندة المعبر عنها بأشكال مختلفة لم تخلق دينامية قادرة على تشكيل جبهة تحوّل مبادرته إلى حالة سياسية يؤخذ بها ويراهن عليها. فغالبية ما يوصف بالمكونات اللبنانية، وفي حالة غير مسبوقة، باتت مقتنعة بضرورة وحتمية حياد لبنان كمخرج لأزمته، وعلى رأسها الطائفة السنية المتمسكة باتفاق الطائف والمتوجسة من الابتعاد عن العمق العربي، باتت تعي أن الحياد المعني والمقصود ليس حياداً في الهوية، إنما هو تحييد لبنان عن المشاكل الإقليمية والدولية. ومن هنا ضرورة أن يعود لبنان إلى التوازن الذي طالما قام عليه أصلاً من خلال دستوره وميثاقه وأعرافه التي حكمت الحياة السياسية قبل دخوله في متاهات الحرب الأهلية والنزاعات الداخلية، وإلا سيبقى ساحة تتبادل فيها إيران وغيرها الرسائل والمصالح.