المشهد اللبناني شديد التعقيد. هذه حقيقة ملموسة لا يُجادل فيها إثنان. والأخطر أنه يُنذر بتطوّرات ساخنة. فالوضع الإقتصادي – الإجتماعي الذي انعكس على معيشة الناس حتى الإختناق يشي بالإحتمالات كلها، وخصوصاً بالأسوأ. ذلك أنّ قدرة المواطن على الإحتمال باتت في حدود الصفر، وإنّ للعضّ على الجرح حدوداً.
طبيعي أن يبدو المواطنون على أهبّة الإستعداد لتلبية النداء إلى أي حراك. نقصد الناس المستقلّين وليس أولئك الذين تحرّكهم المرجعيات الحزبية والسياسية. فكم بالحري إذا التقى الجانبان!
من هذا المنظار لا يجوز أن يرى المسؤولون إلى هذا المشهد بالإستخفاف به، وبما يمكن أن يترتّب عليه من تحوّلات. ومن هذا المنظار بالذات لا يمكن التقليل من خطورة الحشد الشعبي المُنتظَر أن يكون كبيراً في باحات بكركي اليوم. فالجماهير التي ستتدفّق إلى الصرح من مختلف المناطق لا يُحرّكها، فقط، الدافع السياسي (المصيري) الذي يتعلّق بدعم مواقف غبطة البطريرك الراعي الأخيرة، إنما هي تتحرّك أيضاً بدافع الضغط المعيشي الهائل الذي يُرخي بأثقاله على كواهل الناس التي أوهنها تفاقم الأزمات، وعدم إيجاد الحلول، والإحساس بحسرة عميقة على فقدان الوطن مقوّماته التي كانت إزدهاراً، وبحبوحة، وقدرة على ابتكار الحلول، ودوراً إقليمياً كرسول سلام في منطقة قلّما عرفت السلام والأمان في تاريخها القديم والمتوسّط والحديث.
إنّ اللبنانيين لم يعودوا قادرين على الإحتمال. ومرجعية بكركي عندما تُثير القضايا اليومية والكبرى والمصيرية كذلك، فإنها تنطلق من تراث عريق لم يكن يوماً فئوياً أو طائفياً أو مذهبياً، إنما كان ولا يزال مُحصّلة موقف شمولي يرتكز إلى أنّ لبنان ليس وطناً مسيحياً ولكنه بالتأكيد وطن للمسيحيين كما هو للمسلمين والدروز وللملحدين أيضاً…
لقد كانت بكركي الشاهدة الحاضِرة، دائماً وأبداً، على الصيغة اللبنانية، حتى ليصحّ القول إنها حارسة الصيغة.
قد تكون المسألتان اللتان طرحتهما بكركي، في الآونة الأخيرة (الحياد والدور الدولي في الحلّ)، مدار جدالٍ أكيد، وهذا لا خلاف عليه في وطن شعبه شعوب، وشعوبه قبائل، وقبائله أجباب… ولكنّ بكركي عندما تتقدّم بطرح، مهما كان الرأي فيه، فإنها تنظر إلى المصلحة العامة التي تُظلّل أولئك جميعاً.
يبقى أمر واحد مقلق وهو أن يعمد البعض إلى إستغلال موقف بكركي الوطني الجامع في البازار السياسي الرخيص.