Site icon IMLebanon

بكركي والثورة ومعادلة القيم

 

كلام البطريرك مار بشارة بطرس الراعي في رسالة الفصح كان «بطريرك الكلام». إرتقت بكركي في مقاربة الأزمة السياسية إلى أرفع درجات المسؤولية وأدق مراتب استشعار الخطر المحدق بلبنان وبالوجود المسيحي. دعوة بكركي الواضحة لاحترام الدستور واعتباره الحل وليس المشكلة والكف عن البِدع الميثاقية، والكلام الصريح عن مخطط يهدف إلى تغيير لبنان بكيانه ونظامه وهويته وصيغته وتقاليده، وأطراف يعتمدون منهجية هدم المؤسسات الدستورية والمالية والمصرفية والعسكرية والقضائية، هو دعوة للمسيحيين قبل كلّ اللبنانيين للخروج من متاهة المغامرات والسير على حافة الهاوية، والتحرّر من وَهم الإعتقاد بأنهم جزء وازن في لعبة إقليمية ستتيح لهم موقعاً متقدّماً، على وقع الصدام بين مكوناتها.

 

إمتلكت بكركي ما يكفي من جرأة المجاهرة والمواجهة عندما دعت «للكف عن التضحية بلبنان واللبنانيين من أجل شعوب أخرى وقضايا أخرى ودول أخرى»، وفي ذلك قطعٌ للطريق وإسقاط  لكلّ المسوّغات التي يسوقها حزب الله وسائر الفرقاء المنضوين تحت لوائه، للإمعان في الغرق في الإقتتال الإقليمي. انفصلت بكركي عن كلّ الإرث السياسي المتهالك الذي حمله مسيحيون عجزوا عن الخروج إلى رحاب الدولة ويريدون اليوم استنساخ النموذج، عندما اعتبرت «أنّ معيار إعادة النظر بالنظام هو الحاجة إلى مواكبة العصر والتقدّم وتحقيق الأمن الاجتماعي، لا العودة إلى الوراء وتحقيق المكاسب الفئوية والسياسية والطائفية والمذهبية والحزبية».

 

واقعية بكركي النابعة من خوفها على لبنان وعلى مستقبل المسيحيين بعد تجارب لم تحاكِ المنطق وانتهت إلى المزيد من المرارة وخيبة الأمل والتشنج، تدفعها لتقديم موقفٍ مؤسسٍ لحداثة منشودة وإعلان القطيعة مع زمن غابر أمعن معاصروه في الدوران حول الذات، والتسويق لنظريات الإنعزال وآخرها وَهمُ المشرقية.

 

على المقلب الآخر، فإنّ السلطة التي تتبادل إتهامات الإخفاق وآخرها ما ورد على لسان رئيس الجمهورية العماد ميشال عون من بكركي، ليست على قدر الردّ أو التعليق على المتغيّرات والمبادرات الدولية التي يقودها الإتّحاد الأوروبي أو المانيا وروسيا أو مشاريع التوافقات الإقليمية/الدولية التي يضج به العالم العربي، ومنها التقارب التركي المصري والسعودي العراقي. السلطة التي اتّخذت قرارها بالإنكفاء دون أيّة مبادرة حتى لتحسين شروط إصطفافها في المحوّر المعاكس لمسار التاريخ، هي أيضاً عاجزة عن التواصل مع جمهورها، الذي لم تعد تستهويه العناوين السياسية من أي جهة أتت، ولم تعد تستثيره العناوين المذهبية والخوف من الآخر اللذان شكّلا مادة للتجييش الدائم.

 

موقف بكركي المتقدّم الذي لا ينتظره أي إختراق في جدار أزمة تستمد استمراريتها من ديناميات خارجية معروفة، يلاقي الشروط التي تضعها الدول الغربية والعربية لدعم لبنان بتشكيل حكومة مستقلة قادرة على تنفيذ الإصلاحات، وآخرها الموقف الألماني من المساهمة في إعمار مرفأ بيروت. فيما يقابله عجزٌ واضحٌ يتم اختباره يومياً واسترسال في ولاءات ترهّل أسيادها، وهي تلتمس اعتراف العالم بها فيما تعيش شعوبها أقسى مشاهد القمع والتهجير والفقر. لقد قدّمت قضية تلزيم بلوكات الغاز السورية لشركة «كابيتال» الروسية إختباراً واضحاً لعدميّة السلطة وتشتت الخطاب الوطني، حول مسألة متصلة ليس بالسيادة الوطنية بل بالإقتصاد الوطني الذي يعاني سكرات الإفلاس والإنهيار. ففيما إعترف وزير الخارجية شربل وهبة مشكوراً أنّ مراسلات عديدة قد وجّهت لسوريا منذ العام 2013 بهدف ترسيم الحدود البحرية بين الدولتين دون أن يتلقى لبنان أي جواب، وفي حين أثار العديد من السياسيين والباحثين موضوع نشوء منطقة متنازع عليها بين لبنان وسوريا ينبغي إيجاد الحل لها بالطرق القانونية المتعارف عليها، ذهب البعض ومن خلفيات سياسية تتأهب للثأر إلى إلقاء اللوم على لبنان الذي أقدم على ترسيم حدوده البحرية الشمالية دون موافقة سوريا، وهم يعلمون تماماً أنّ سوريا لم تتجاوب بل تجاهلت كل دعوات الترسيم التي وجّهت لها منذ العام 2005، وهي لم تنظر يوماً إلى لبنان كمكوّن سياسي بل كقضية عقارية ينبغي تسويتها.

 

يقول المثقف الليبي الراحل صادق النيهوم: «إنّ الأمّة التي تفقد عقلها الجماعي لا تملك فكراً بل تملك لغة فقط لا تعوّض الأمّة عن غياب عقلها الجماعي، ولا تضمن لها رؤية واقعها من الزاوية الصحيحة، بل تشغلها عن إدراك هذا النقص بالذات وتوفر لها سبب الهروب من الواقع، إما بالعودة الى الماضي واستعادة الشعور بالإنتماء من دون الإنتماء لأحد، وإما باستخدام أسلحة الهستيريا التي تغيّب صوت العقل القادر على قراءة الوضع من الزاوية الصحيحة، فيتحوّل المواطن الى مقاتل يدافع عن الوضع القائم، لا يحاور بل يقاتل، ويصبح الحاكم المتسلط قائداً شعبياً وتتحوّل العصابات الى قوات وطنية ويصبح الحزب الطائفي حزباً مقدساً».

 

إنّ بناء العقل الجماعي اللبناني هو عملية تراكمية، ميدانها تعزيز دور المواطن ومشاركته في  بناء السلطة وإصلاح الإدارة، وهذا لا يستند فقط إلى اعتباره الأداة المثلى للتغيير، بل بمقدار قناعته بالتماهي بين دوره في التغيير ودفاعه عن حقوق مكتسبة توازي تضحياته، وبتكافؤ القيّم بين الهدف المنشود وكرامة من يسعى لتحقيقه.

 

ما بين خطاب بكركي وعجز السلطة، يحمل اللبنانيون حلمهم بالتغيير دون أن يستطيعوا تحقيقه، ويتظهّر مأزقي غياب اللغة المشتركة بينهم وتبلور العقل الجماعي كنتيجة لغياب مناخ الحوار الحر. إنّها محنة لا يخفف من أعراضها الرهيبة أن يجتمع المفكرون في مؤتمر أو في ندوة لتبادل نظريات إصلاحية، بل بالإرتقاء بالمواطن إلى مستوى استحقاق الإصلاح المنشود، فانتصار خطاب بكركي على السلطة مسألة قيمية قبل أي مضمون سياسي.

 

مدير المنتدى الإقليمي للإستشارات والدراسات