IMLebanon

بكركي غائبة عما يُرسم لمستقبل لبنان

     

 

بين حزب الله وخصومه، بات الكلام عن التفاوض الدولي حول لبنان معلوماً. لكنْ بين بكركي وحزب الله، ثمة كلام آخر، يتعدّى العلاقة المتأرجحة في المواضيع المحلية، إلى ما يمكن أن يخشاه الحزب من أي دور لبكركي، وسط تراجع تأثير القوى السياسية المناهضة له.ما لفت في الأشهر الأخيرة، أكثر من مرة، حملة من أوساط قريبة من الحزب ومؤيدين له على بكركي، في سياق مباشر وغير مباشر، تحت مسميات مختلفة. وليست قضية المطران موسى الحاج سابقاً وحالياً وحدها المعبّرة عن ذلك. ثمة انطباع بأنه في خضمّ تراجع دور القوى السياسية المارونية، والانهيار التدريجي لمواقع سياسية وأمنية وإدارية ومالية، من الطبيعي أن تأخذ بكركي حجمها التقليدي السياسي المعتاد وفقاً لتجارب سابقة. وهذا يعني تلقائياً أن تتصدّر المشهد السياسي في التعبير عن رأي المجموعة عند أي حدث مفصلي يتعلق بالنظام أو بتسويات كبرى، ولا سيما في غياب رئيس الجمهورية الماروني. فأي محاولة خارجية لفرض تسوية بالمعنى الشامل، لا بد أن تأخذ في الاعتبار موقف بكركي من احتمالات التوصل إلى تفاهمات تترك تأثيرها على مستقبل البلد. لذا، كان التلميح إلى أن تسهيل التعرّض لها، بعناوين مختلفة، يهدف إلى كبح كل مسار يراد منه إعطاؤها دوراً في ما يدور من حوارات، أو أن تكون لها كلمة مؤثّرة مع عواصم القرار (عربية أو غربية) التي تُعنى بلبنان.

ولكن، هل هناك ما يبرّر تخوّف حزب الله من الدور الذي يمكن أن تلعبه بكركي في مواجهة تفاوض يتم على حساب رؤيتها ورؤية خصوم حزب الله للبنان، أو في وجه تسوية تراعي الحزب في شؤون مفصلية، ولا سيما أن هناك خيوطاً رفيعة لا تزال تربط بكركي بزوار غربيين وعرب يحرصون على زيارتها والأخذ برأيها.

 

بغضّ النظر عن الدور التاريخي للبطريرك الياس الحويك الذي سافر إلى باريس سعياً وراء لبنان الكبير، لا تزال تجربة البطريرك نصرالله بطرس صفير في تسويق فكرة الدفاع عن لبنان واستقلاله، في المحافل الخارجية، الأكثر حضوراً في تاريخ الحياة السياسية اللبنانية. وقد تحوّلت علامة دبلوماسية فارقة في تاريخ بكركي، من خلال جولاته الخارجية وعلاقاته ولقاءاته في واشنطن وباريس وعواصم أوروبية وعربية، ومع الجاليات اللبنانية واللوبيات المؤثّرة التي زارها حصراً لتسويق فكرة الدفاع عن لبنان، في عزّ الوجود السوري وتأثيراته وغضّ نظر خارجي – أميركي تحديداً – عن ممارساته. والأهم أن صفير تمكّن في ولاية البابا يوحنا بولس الثاني الذي عرف معنى السيطرة السوفياتية على بلاده، وكان يكنّ احتراماً خاصاً لصفير، من العمل مع الفاتيكان على تزخيم حركته الخارجية.

غياب فاضح للصرح عن عواصم القرار في مقابل الانغماس في ملفات محلية

 

مع الكلام عن احتمالات استعادة تجربة ما بعد الطائف، والدور السوري، وصياغة تفاهمات دولية وإقليمية تعطي لحزب الله ما يريده، وخلفه إيران، كان التعويل على دور لبكركي بأن تكون الحاضر الأكبر قبل جلوس المفاوضين على طاولة التفاهمات الجارية حالياً. لكنّ المشكلة أن ما يخشاه حزب الله قد لا يكون له وجود في الواقع، وربما يبالغ الحزب في تصوير قدرة بكركي الحالية على التأثير كما كانت حالها سابقاً، لأن القراءة السياسية لبكركي لم تعد قراءة موحّدة، بل تخضع لتأثيرات داخلية يعرفها الجسم الدبلوماسي والسياسي المعنيّ. والازدواجية قد تريح البعض في زمن الأزمات التي تحتاج إلى قرار واحد. والغياب الدبلوماسي الخارجي لبكركي التي كان يفترض أن تكون موجودة في عواصم القرار على غرار تجارب سابقة، وضخّ الحياة في خطاب عدم جعل لبنان مادة تفاوضية، غياب فاضح، في مقابل الانغماس في ملفات محلية الطابع.

وما يزيد من عزلة بكركي الخارجية (والتعويل على زيارات دبلوماسية بروتوكولية للصرح لا تقدّم ولا تؤخّر) وانكفائها التام عن مجاراة الحدث الإقليمي وتداعيات حرب غزة، أن عدم التنسيق بينها وبين الفاتيكان يلعب دوراً مؤثّراً. فأجندة الفاتيكان وسفيره في لبنان مختلفة تماماً، ولا ودّ معروفاً بين البابا فرنسيس والبطريرك بشارة الراعي. وتدخّل الفاتيكان مع واشنطن أو فرنسا منعزل تماماً بخريطة طريقه عما تريده بكركي. وهذا يضاعف، لبنانياً ومارونياً، من العوامل التي تجعل غياب أي حضور فاعل في برنامج التفاوض، على الأقل للتعبير عن وجهة نظر مختلفة عما يريده حزب الله أو إيران. وهذا التمايز الفاتيكاني يرسم كذلك علامة استفهام عن قدرة الكرسي الرسولي على امتلاك وجهة نظر واضحة وتفصيلية عن لبنان، ما دامت ذراعه الأساسية، أي الكنيسة المارونية، غير حاضرة كما يجب. وبقدر ما يمكن أن يكون ذلك مزعجاً أو مؤذياً، فإنه يريح الأطراف التي ستقود على طاولة التفاوض حواراً نظيفاً بالنسبة إليها، متحرّراً من محاولات عرقلة ما يُكتب من تفاهمات.