آن الأوان لإنهاء وصاية إيران على لبنان
بعد 23 عاماً، لا يزال صدى «نداء بكركي» في 20 أيلول 2000 يتردّد في المفاصل الرئيسية في مواكبة الأحداث السياسية. شكّل ذلك النداء نقطة البداية لعملية التغيير الكبيرة التي شهدها لبنان منذ ذلك العام وأوصلت إلى خروج القوات السورية منه عام 2005، بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري. اليوم يرزح لبنان تحت وصاية «حزب الله». فهل يمكن أن يكون هناك نداء جديد يوازي نداء العام 2000 يطلق مرحلة بداية إنهاء هذه الوصاية؟
أتى نداء مجلس المطارنة الموارنة في 20 أيلول 2000 بعد حدثين كبيرين: الإنسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان في 25 أيار، ووفاة رئيس النظام السوري حافظ الأسد في 10 حزيران. كان البطريرك مار نصرالله بطرس صفير قد أصبح بحكم ممارساته وعظاته يمثّل البوصلة التي تشير إلى الوجهة التي يمكن أن تذهب إليها التطورات، كقائد يمكن الوثوق به، وبمواقفه وعناده الذي لا يتزحزح. أجّل كثيراً مطالبته بانسحاب جيش النظام السوري من لبنان وبالعودة إلى التطبيق الصحيح لاتفاق الطائف الذي كان الهدف منه تحرير القرار اللبناني بعد إنهاء الحرب، وعندما حصل الإنسحاب الإسرائيلي، اعتبر أنّ الأوان آن لكي يطلق ذلك النداء ويطالب بشكل مباشر بانسحاب جيش النظام السوري.
نير الوصاية السورية
كان لبنان بدأ يرزح تحت تسلط وصاية الإحتلال السوري الذي استمر منذ العام 1990 بعد اغتيال الرئيس رينيه معوض وانتخاب الرئيس الياس الهراوي. لم يكن صفير ينتظر تلك اللحظة وحده. عندما أطلق ذلك النداء، ظهر وكأنّ هناك كثيرين كانوا ينتظرون. كان رئيس «الحزب التقدمي الإشتراكي» وليد جنبلاط وقتها أول من كشف عن حالة الإنتظار هذه فلاقى البطريرك صفير في مطلب انسحاب الجيش السوري. منذ ذلك التاريخ بدأ التأسيس لمواجهة سياسية تحمل أهداف «نداء بكركي». صحيح أنّ النظام السوري أدرك خطورة هذا النداء منذ انطلاقته، ولكنّه لم يحسب أنّه سيلاقي تجاوباً من جهات لبنانية أخرى تلتقي معه. لذلك كانت الحملة المعاكسة السريعة ضدّ وليد جنبلاط، وقد وصلت إلى حدّ التهديد بقتله، ولكنّه لم يتراجع. منذ ذلك التاريخ بدأ التحضير لوضع ذلك النداء موضع التنفيذ. وكان «لقاء قرنة شهوان» الذي باركه صفير وترأّسه المطران يوسف بشارة، التعبير السياسي الأول كأداة تنفيذية لاستراتيجية البطريرك التي كانت تحتاج إلى حفر الجبل بالإبرة. لم يكن هناك أمل كبير بالقدرة على إحداث التغيير في ظل تحكم النظام السوري بكل مفاصل الحياة السياسية في لبنان، وفي ظل عهد الرئيس إميل لحود وتركيبته الأمنية. ولكنّه مسار كان بدأ.
مصالحة هزّت الإحتلال
منذ ذلك التاريخ أيضاً بدأ التحضير للمصالحة التاريخية في الجبل بين البطريرك صفير وما يمثِّله من اختصار للوجدان المسيحي والقوى المسيحية المقموعة، وبين وليد جنبلاط وما يمثِّله من اختصار للوجدان الدرزي. وكان من الصعب تمرير هذه المصالحة التي كان النظام السوري ومن معه في لبنان ينظرون إليها وكأنّها انقلاب بكل المقاييس. ولكن على رغم ذلك كان القرار ملك صفير وجنبلاط. ولذلك وبعد تأجيل أكثر من مرّة حصلت الزيارة التاريخية لصفير إلى الشوف وعاليه وصولاً إلى جزين في 5 و6 و7 آب 2001. ردّ النظام السوري كان سريعاً في 7 آب من خلال عمليات اعتقال واسعة شملت محازبين من «القوات اللبنانية» و»التيار الوطني الحر» تمّ إلباسها ثوب اتهامات المؤامرة التي ترتبط بالعدو الإسرائيلي. ولكنّ تلك العملية لم تؤدِّ إلى وقف المسار. كانت تلك الجولة البطريركية حدثاً في حدّ ذاته برز من خلال الإستقبالات الشعبية التي لم تستطع أدوات النظام السوري الحدّ منها. وكان لقاء صفير مع جنبلاط في قصر المختارة هو الحدث الأكبر الذي توّج هذه الأيام التي هزّت لبنان. صحيح أنّ اعتراضات كثيرة حاولت الحدّ من تداعياتها كاشتراط الأمير طلال أرسلان أن يزوره البطريرك أو أن يشارك رئيس الجمهورية في قداس دير القمر، ولكنها في النهاية بلغت المطلوب منها.
«11 أيلول» هزّت العالم
ثمّة حدث عالمي دخل على الخط. بعد شهر وأربعة أيام على مصالحة الجبل حدثت هجمات 11 أيلول، في الولايات المتحدة الأميركية، التي أدّت إلى تغيير كبير في استراتجية واشنطن في العالم، وكان من الطبيعي أن تنعكس على لبنان أيضاً. هذه الأحداث نتج عنها تطوّر سلبي سريع تمثّل بانكفاء جنبلاط تكتيكياً بانتظار جلاء المواقف الأميركية خصوصاً بعد اسقاط نظام «طالبان» في أفغانستان في كانون الأول 2001، ثم إسقاط نظام صدام حسين في العراق في نيسان 2003. عندما وصلت القوات الأميركية إلى الحدود السورية، كان من المنتظر أن يبدأ لبنان بالتنفس، وكأنّ اللحظة المنتظرة للتغيير قد آن أوانها. كل ذلك ظهر في القرار 1559 الذي طالب فيه مجلس الأمن الدولي بسحب الجيش السوري من لبنان ونزع سلاح «حزب الله» وانتخاب رئيس جديد للجمهورية.
رفض النظام السوري مع «حزب الله» القرار وبدأت المواجهة التي تُرجِمت باغتيال الرئيس رفيق الحريري في 14 شباط 2005. كان الحريري أقرب إلى الإنخراط في الإلتقاء المتين بين جنبلاط وصفير ومعهما القوى المسيحية الأساسية خصوصا «القوات اللبنانية»، ولذلك خاف النظام السوري و»الحزب» من الإنقلاب الديمقراطي في انتخابات العام 2005 فمدّدوا للرئيس لحود قبل اغتيال الحريري، وحاولوا منع التغيير بالقوّة. ولكن القرار الدولي كان واضحاً. انصاع بشار الأسد للضغط وسحب جيشه من لبنان. بعد 18 عاما على ذلك الإنسحاب عمل «حزب الله» على وراثة عهد الوصاية. لم تشمله مواجهة 2005 التي لم تُسقِط الرئيس لحود أيضاً، ولذلك قاد انقلابات متتالية أدّت إلى تحكّمه باللعبة السياسية بواسطة السلاح ومن خلال تعطيل نتائج الإنتخابات ومنع انتخاب رئيس الجمهورية وفرض الحكومات التي يريدها.
الراعي وتجديد النداء
يوم الجمعة 8 أيلول الحالي، زار البطريرك مار بشارة بطرس الراعي الشوف وعاليه والتقى وليد جنبلاط في المختارة. عنوان الجولة التي بدأت بلقاء في منزل شيخ عقل الطائفة الدرزية الدكتور سامي أبي المنى في شانيه، كان التأكيد على مصالحة الجبل التي أرساها البطريرك صفير وجنبلاط. صحيح أنّ الجولة تجاوزت مسألة زيارة طلال أرسلان في خلده، إلا أنها لم ترتقِ إلى مستوى زيارة صفير قبل 22 عاماً.
صحيح أنّ البطريرك الراعي حمل راية البطريركية المارونية بعد صفير منذ 15 آذار 2011، وأنّه يتابع المسار الذي مثّله صفير مع غيره من البطاركة، ويتعلق بالحفاظ على هوية لبنان والكيان، ولكنه اليوم يواجه مسألة أكثر تعقيداً ممّا واجهه صفير، تتمثّل بوصاية «حزب الله» ومن ورائه إيران على الدولة اللبنانية. لا يتوانى الراعي عن رفع السقف في كل ما يتعلّق بمعاني السيادة والحرية والإستقلال، وكان واضحاً ومباشراً في دعم انتفاضة 17 تشرين ولكنّه لم يصل إلى حدّ الإعلان عن «نداء» جديد من بكركي يتعلّق بما يشبه إعلان 20 ايلول 2000 وفيه أنه «آن الأوان لوضع حدّ لوصاية «حزب الله» على لبنان».
ظروف غير مشابهة
ربما ظروف العام 2000 ليست مشابهة لظروف العام 2023. ولكن المسألة تستحقّ رفع السقف. فكما كان النظام السوري يتحكّم بكل المفاصل اللبنانية، يتحكّم اليوم «حزب الله» بهذه المفاصل. يمنع انتخاب رئيس للجمهورية. يعطي توجيهاته للحكومة والوزارات. يملي على وزير الخارجية ما يجب أن يفعله في مجلس الأمن بخصوص التمديد للقوات الدولية ويفرض عليه الذهاب إلى نيويورك. يمنع التحقيق في تفجير مرفأ بيروت وفي قضايا أخرى واغتيالات تحوم فيها الشبهات حوله. يهدّد باستخدام سلاحه في الداخل، ويعتبر أنّه سلاح شرعي وضروري ودائم.
حتى الإحتلال السوري كان يُعتبر أنّه شرعي وضروري وموقّت. ويريد أن تكون الدولة بكل أجهزتها في خدمة استراتيجيته، من حاكمية مصرف لبنان إلى قيادة الجيش إلى سائر المناصب. يأمر فيطاع، ويهدّد من لا يطيع. ولذلك يستعمل كل هذه القوة التي حشدها لنفسه منذ العام 2005 من أجل فرض انتخاب رئيس الجمهورية الذي يريده.
صحيح أنّ سقف بكركي الرئاسي مرتفع. وصحيح أنّ البطريرك الراعي يُعلي الصوت رفضاً لتعطيل الجلسات وإن كان يعمّم المسؤولية في أحيان كثيرة. وصحيح أنّه حدّد المواصفات المطلوبة من الرئيس. وأنّه كان طلب من الرئيس السابق ميشال عون تحرير قرار الشرعية. ولكن المسألة ربما تحتاج اليوم وبعد 23 عاماً على «نداء بكركي» أن يكون هناك «نداء» جديد يحدّد الهدف المباشر برفع وصاية «حزب الله» وإيران، وصولاً إلى انتخاب رئيس للجمهورية يتولّى مهمّة استعادة الجمهورية والهوية والكيان لأنّ مجد لبنان لم يبدأ مع «حزب الله» كما يدعي «الحزب»، بل انهياره ومأساته، ولأنّ لبنان أكبر من هذا الحزب، ولأنّ التغيير الكبير يستحقّ المواجهة كما فعل البطريرك صفير، الذي عندما أعلن نداء أيلول 2000 لم يكن عنده إلّا تلك الإرادة برسم الخطوة الأولى في طريق التغيير.
ذلك أنّ التحرّر من وصاية «الحزب» ليس أصعب أو أخطر من التحرّر من الوصاية السورية. وربّما لذلك مرّت زيارة الراعي إلى الجبل وكأنّها زيارة عادية، ولم تعطِ صورته مع وليد جنبلاط في المختارة البعد الذي أخذته صورة جنبلاط مع صفير.