اختلفت المواقف مما نُشر حول اللقاء الذي انعقد في بكركي لمناقشة ما سُمّي «وثيقة سياسية مسيحية» الى درجة لافتة. وإن تمعّن العارفون بكثير من الحقائق التي سبقت ورشة العمل وتلت بداياتها الاولى، لعبّروا عن صدمتهم لجهة ما أُعطي المجتمعون من دور، وتوصيف وثيقة خضعت للقراءة الاولى بـ «التاريخية»، وهو ما أفقد هذه القراءة صدقيتها، إذ لا يجوز إطلاقها قبل معرفة ما يمكن ان تنتهي اليه. ولذلك اتهم اصحاب هذه التسريبات المبكرة بالسعي الى «تسويق سياسي» في اتجاه لن يخدمها. كيف ولماذا كانت هذه المقاربة؟
من انتهى الى هذه الخلاصة المختصرة يدرك أنّ في بكركي والمؤسسات والهيئات التابعة لها والتي تعمل في كنفها، عدداً كبيراً من اللجان وفِرق العمل الاستشارية السياسية والادارية والاقتصادية، التي تعمل بصمت على اكثر من مستوى مسيحي ووطني. وهي لجان متعددة الاختصاصات تجمع الخبراء الكبار في كثير من القضايا المطروحة على الكنيسة، نظراً الى حجم اهتمامها بالشؤون الوطنية المختلفة، الكنسية والروحية منها كما المدنية. وهي تعمل بصمت الى جانب البطريرك مار بشارة بطرس الراعي مباشرة او الى جانب عدد من المطارنة المكلّفين ملفات محدّدة تتناول مختلف وجوه حياة اللبنانيين ولا تقف عند حدود المجتمع المسيحي تحديداً، بالنظر الى ما تتناوله مما يشكّل هموماً وطنية ما زالت تخضع للتجاذبات السياسية بطريقة حالت دون ان تنتهي الى غاياتها السامية.
كان لا بدّ للعارفين بكثير من تفاصيل ورش العمل الجارية في بكركي، وتحت رعايتها والى جانبها، ان تشير الى عمل اللجنة الاخيرة التي شُكّلت على مستوى ممثلين لقادة الأحزاب والكتل النيابية المسيحية للبحث في ورقة عمل «شاملة» اعدّها راعي أبرشية أنطلياس المارونية المطران أنطوان ابي نجم الذي كان مكلّفاً استقصاء رأي الاحزاب المسيحية حول القضايا الوطنية العامة وطريقة مواجهتها في ظلّ الظروف الراهنة قبل ان تتطور الامور وتتعدّد المبادرات التي قادها الموفدون الدوليون والهيئات الديبلوماسية وفي مقدّمها أعضاء المجموعة الخماسية العربية والدولية التي شُكّلت لمساعدة اللبنانيين على إتمام الاستحقاق الدستوري بانتخاب رئيس الجمهورية، وما يمكن ان يرافقه من إجراءات لا بدّ منها لإعادة تكوين السلطة واستكمال بناء المؤسسات والسلطات الدستورية التي تفتقد السلطة الإجرائية في غياب رئيس للجمهورية.
والى هذه الاسباب الموجبة التي تضع اللجنة في مكان لا يتناسب وحجم ما نُسب اليها من مواقف وادوار وصلت الى مرحلة اعتبارها أنّها مكلفة وضع «ورقة تاريخية» تحدّد الثوابت المسيحية مما يجري على الساحتين الوطنية والمسيحية. ذلك انّ مثل هذه الثوابت موجودة ومحترمة الى حدّ بعيد وخصوصاً لدى الجانب الكنسي الذي شدّدت عليه بكركي في أكثر من مناسبة واستحقاق، ولا تحتاج الى لجنة تفسّرها او تسعى الى تعميمها او تسويقها في الشكل المعتمد في الأسواق السياسية الرائجة وسط الضجيج الاعلامي.
والى ما تقدّم من الملاحظات التي لا بدّ منها تمهيداً لتناول ما تسرّب عن أعمال اللجنة وما أُعطيت من أوصاف وادوار من السابق لأوانه إغداقها عليها. ذلك انّ ما حصل دفع الى استغراب شخصيات عدة ممن شاركوا في التحضير لأعمالها، والأصح القول في إحيائها. فهي لجنة شبه دائمة تعمل منذ سنوات، وقد تغيّرت اسماء من يمثل بعض اطرافها لانشغال رفاقهم السابقين بمهمات اخرى، ومنهم من انتقل الى مواقع نيابية وسياسية اخرى. ومردّ هذا الاستغراب يعود الى أسباب مختلفة ومنها على سبيل المثال:
– توقّع البعض من لجنة بدأت أعمالها للتو، وأوحت بعض السيناريوهات عن مهمّات «تاريخية» في مرحلة كان اعضاؤها ما زالوا عند القراءة الأولى لمضمون «الورقة التمهيدية» التي وضعها المطران أبي نجم ومعاونوه من صفحتي فولسكاب، وبنوا عليها مجموعة من المواقف السياسية التي تشكّل عناوين القضايا المدرجة في متنها، وهي متعددة تتناول كل القضايا المطروحة على اللبنانيين بعناوينها العريضة.
– توسّع البعض في الحديث عن موقف مسيحي من الاستحقاق الرئاسي الذي يشكّل أحد البنود الواردة تحت عنوان أكثر شمولية، ذلك انّ العجز عن إتمامه كان سبباً رئيسياً في فشل كثير من المعالجات لقضايا مختلفة، عدا عن النتائج الكارثية المترتبة على غياب رأس الدولة عن عدد من القضايا التي تعني علاقات لبنان الاقليمية والدولية في مرحلة خطيرة تعجّ فيها المنطقة بأحداث تهدّد دولاً وتشكّل أكبر خطر يحدق بالكيان الوطني، عند تعداد الأزمات التي شلت الدولة ومؤسساتها وأبعدتها عن تقديم الحدّ الادنى من خدماتها لمواطنيها والمقيمين على ارضها، في ظل اخطر الازمات الناجمة عن الحرب في فلسطين المحتلة وما جرّ لبنان الى أتونها، وانعكاسات ما يجري على مصير وطن وشعب يرزح تحت ثقل أزمات داخلية تناسلت بطريقة خطيرة لم يعرفها في تاريخه اي شعب في العالم، وقد زادت منها مخاطر النزوح السوري وما تسبّب به من انعكاسات لا تُحصى ولا تُعدّ.
– بالغ بعض السيناريوهات في الحديث عن غياب تيار «المردة» عن اعمال اللجنة، بعدما كانت ممثلة في اللجنة السابقة وزميلاتها جميعها، وغاب آخرون عن الاجتماع الاول والتحقوا بالثاني، ولذلك ليس مستبعداً ان يكتمل عقد ممثلي الأحزاب فيها متى توضحت الصورة المشوشة التي أُعطيت عن اللجنة في بداية مهمّتها «الماراتونية»، في وقت تلاقت بداية مهمّتها مع دعوة رئيس «التيار الوطني الحر» النائب جبران باسيل الى لقاء لرؤساء الأحزاب المسيحية في بكركي، فشاء بعض اعضائها الردّ عليها بالإشارة الى وجود ومشاركة التيار فيها، ولا حاجة للبحث في اجتماعات اخرى، وخصوصاً إن اراد البعض منها مقاربة الاستحقاق الرئاسي. فلبكركي ومعظم المشاركين في هذه اللجنة موقف واضح يدعو الى تطبيق المادة 49 من الدستور التي تحدّد آلية انتخاب الرئيس في جلسات متتالية تفضي الى انتخابه، ولا حاجة لطاولة «حوار» او «تشاور» تسبق انعقادها، في ظل اقتناع تام باستحالة التفاهم المسبق على اسم يتمّ إسقاطه في صندوق الاقتراع طالما انّ هناك مواجهة كبرى يُراد لها ان تكون «ديموقراطية» في السباق الى قصر بعبدا، وقد نبت العشب على مدخله والى جانبي الطريق المؤدي اليه، بعد خمسة عشر شهراً على خلو سدّة الرئاسة.
عند هذه المعطيات واخرى لا يتسع المقال لتناولها، ينتهي العارفون الى الدعوة الصادقة بالحاجة الى انتظار ما يمكن ان تسفر عنه أعمال اللجنة، وهي في بداية الطريق، وربما تحتاج الى مسلسل من الاجتماعات لمقاربة العناوين المطروحة. كما انّها لم تتعهد بطرح «وثيقة نهائية» قبل طرحها على لقاء وطني شامل تشارك فيه قوى لبنانية اخرى مختلفة. ذلك انّ من يعتقد انّ المشكلات التي يعانيها لبنان ستنتهي عند رؤية اللجنة، يرتكب خطيئة كبيرة وجسيمة. فلا يعتقدن أحد انّ من جمعتهم اللجنة سيعترفون بأنّ مقاربة الاستحقاق الرئاسي تعني أنّه «أزمة مسيحية ـ مسيحية. لا بل هي ازمة وطنية كبرى تمكّن البعض من ربطها بقضايا إقليمية ودولية بقوة قاهرة، وخصوصاً في ما يجري في غزة والمنطقة. ويخشى انّ من يعتقد عكس ذلك قد يكون «ممن يطالبون بالشيء قبل اوانه، فيُعاقب شخصياً بحرمانه او يكون سبباً ليُعاقب الآخرين بحرمانهم».