ثمة طرفة توصّف حقيقةً سير اجتماعات الأحزاب والقوى المسيحية التي تلتقي راهنا في الصرح البطريركي من أجل إصدار ما صار متعارف على تسميته «وثيقة بكركي» أو «الوثيقة البطريركية». تقول الطرفة: «المسوّدة تُبحث في عقر دار الموارنة، واضع نصّها الابتدائي كاثوليكيّ، مناقشوها أرثوذكسيون، صائغ نصّها النهائي ماروني».
تُعبّر تلك العبارة عن التنوّع المسيحي الذي يُراد للوثيقة أن تعكسه، وعن واقع الحال عند أبناء الكنيسة الذين يتوزّعون على تلاوين سياسية وحزبية متنافرة ومتناقضة، لكنهم يجهدون راهنا من أجل مواجهة وحدوية للتحديات عبر مقاربة مشتركة تتخطى الحساسيات والشخصانيات التي عادة ما تحكم أداء معظم القيادات المسيحية.
ولئن أريد للقاء أن يبقى قيد الكتمان وبعيدا من التداول العام، تكمن رمزيته الجامعة في أن من شأنه إضفاء عنصر إيجابي لا يزال مفقودا حتى الأمس القريب، بفعل التباين في وجهات النظر، لا سيما بين التيار الوطني الحر والقوات اللبنانية وغياب الثقة والشخصانية والابتعاد عن المشتركات، ما خلا التقاطع على ترشيح الوزير السابق جهاد أزعور.
لا يزال تيار المردة، من جهته، على مقاطعته الإجتماع في بكركي، تماما كما يعارض الدعوة إلى حوار مسيحي جامع تحت مظلة البطريركية المارونية، لاعتقاده أنه بذلك يقطع الطريق على رغبة القوّتين المسيحيتين الأكبر، التيار الوطني الحر والقوات اللبنانية، في تعريته مسيحيا وإفراغ ترشيح النائب السابق سليمان فرنجية من محتواه ومضمونه. لكن المردة بذلك يكرّس حقيقة أن ترشيح رئيسه إنما هو بدفع شيعي صرف، في غياب الغطاء المسيحي السياسي والروحي المفترض أن يتوافر لأي رئيس للجمهورية.
حقّق الاجتماع المسيحي في بكركي الخميس الفائت اختراقات إيجابية، بحيث جرى الإتفاق على عقلنة المسوّدة والانتقال من نصها الأساسي الأقرب إلى مضبطة اتهام نافرة، كمثل الكلام على «دور لبنان التاريخي والحر الذي يتحول تباعاً إلى دولة دينية شمولية آيديولوجية»، إلى نصّ موضوعيّ وعقلاني يُراد له أن يلقى اهتمام الشريك وباله، بلا قناع لكن أيضا بلا خطاب الاستفزاز القائم راهنا لدى ما يعرف بالأحزاب السيادية.
أظهرت الساعتان من النقاش المفصّل والصريح في مسودة الوثيقة البطريركية أن الأحزاب التي شاركت في اجتماع بكركي على اتفاق بضرورة الخروج برؤية موحدة مسيحية قادرة على صوغ أركان مبادرة وطنية تواجه التحديات الماثلة، وتضع لهذه الغاية خريطة طريق عملية، تبدأ ولا تنتهي بانتخاب رئيس الجمهورية.
وبات معلوما أن مسوّدة الوثيقة تتوزّع على 7 محاور، هي: احترام سيادة لبنان، احترام الدستور وانتخاب رئيس، احترام القرارات الدولية وتنفيذها، رفض زجّ لبنان بالصراعات الإقليمية، رفض حروب الآخرين على الأراضي اللبنانية، اللامركزية الإدارية والمالية الموسّعة، التحقيق في تفجير المرفأ.
أتت المناقشة السياسية للمحاور السبعة مرنة وسلسلة، بحيث تمّت مقاربة مسودة الوثيقة البطريركية بكثير من الايجابية الموضوعية، بدءا من العنوان وانتهاء بالخلاصات. فكان أن اتفق المجتمعون على إنضاج ورقة سياسية تتيح محاكاة المكوّن المسلم لا التصادم معه، ولا تقتصر فقط على تعداد الهواجس المسيحية، وهي كثيرة، تقع في صلبها الشراكة الحقيقية. لذا تم التأكيد على ضرورة تعديل عنوان الورقة من عنوانها الابتدائي «المسيحيون الى أين» إلى «لبنان إلى أين» لتعكس شمولية الوثيقة ووطنيتها، وانطلاقا من لزوم التأسيس لحلول لا مجرّد تعداد المشاكل. كما تم التوافق على تشذيب بعض العبارات والأفكار التي انطوت عليها المسوّدة لأهمية الخروج بنصّ يلقى اهتمام الشريك، وتحديدا الثنائي الشيعي، يمكن التأسيس عليه لوضع اتفاق وطني يأتي ثمرة مقاربة موضوعية تجيب عن الهواجس المطروحة لدى اللبنانيين، سواء كانت وجودية أو سيادية أو تكوينية أو طائفية -مذهبية.
وتقرّر أن يكون الإجتماع الثالث بعد الفصح الغربي، وربما في حدود العاشر من نيسان. وبذلك تتكوّن المساحة الزمنية اللازمة لكيّ يضع ممثلو الأحزاب ملاحظاتهم الخطيّة على المسوّدة وإدخال ما يلزم من تعديلات جرى التوافق عليها في الإجتماع الثاني، خصوصا بعدما أقر الجميع بالحاجة الى مزيد من المراجعة والنقاش والتشاور المطلوب لإنضاج الوثيقة وجعلها أقرب إلى خطة عمل وخريطة طريق عملية تطرح العناصر التنفيذية الآيلة إلى إخراج لبنان من الأزمة، وجعل الشراكة غير المشروطة وغير المقنّعة في الدولة وفي القرار الوطني نواة كل الحلول، والبند الأول في كل حوار مع الشريك المسلم.