مبادرة نواب كتلة الإعتدال النيابية، في الدعوة لعقد جلسات التشاور بين ممثلين عن الكتل النيابية تحت قبة البرلمان، بهدف إعادة الحياة إلى شرايين التواصل بين القيادات السياسية، وتحقيق إختراق ما في جدار الأزمة الرئاسية، لم تأتِ من فراغ، بل جاءت من صلب الدور التقليدي لأهل السنّة والجماعة، في إقامة جسور الحوار بين الأطراف السياسية والطائفية، في الأزمات والملمّات، والعمل على تغليب لغة الحكمة والعقل، بهدف تسهيل التوصل إلى القواسم المشتركة، والوصول إلى الحلول المتوازنة على أساس القاعدة الذهبية «لا غالب ولا مغلوب» التي أطلقها الرئيس الراحل صائب سلام قبل ٦٦ عاماً.
وإذا كانت المبادرة النيابية قد إصطدمت ببعض العقبات السياسية أو الحزبية، لا سيّما من حزب الله، فإن الرد عليها لا يكون بلغة طائفية، ولا بإجتماعات مذهبية، ولا حتى بأساليب التفرد والإستئثار بالقرار الوطني، في المراحل الحرجة، كالتي يمر بها لبنان اليوم، على قرع طبول الحرب في الجنوب، وواقع الأزمات الإقتصادية والمعيشية المتناسلة.
من هنا كانت حالة الترقب وحبس الأنفاس التي أحاطت بدعوة بكركي لعقد اجتماع للأحزاب والقيادات المارونية، تحت عنوان البحث في الإستحقاق الرئاسي، والواقع الراهن للموارنة في وظائف الدولة، وإداراتها العامة.
وبغض النظر عن المناقشات الخلافية التي طغت على أجواء الإجتماع الأول، فإن ما يهمنّي كمواطن لبناني، أن لا يعود مشهد الإنقسامات الطائفية المقيتة، الذي ساد عشية حرب السنتين، مثل إجتماعات سيدة البير وجامعة الكسليك وسيدة الجبل، وما قابلها في الجانب الآخر من إجتماعات الحركة الوطنية وقمة عرمون وغيرها.
ولا بد من الأخذ في الإعتبار أن كل الإجتماعات التي عُقدت في بكركي، لتسوية الخلافات بين القيادات المارونية، لم تحقق الأهداف المرجوة منها،بل كانت نتائجها العكسية تظهر على الأرض بأسرع ما كان متوقعاً، كما حصل عام ١٩٨٩ في «حرب الإلغاء» بين العماد ميشال عون وسمير جعجع، فضلاً عن فشل إجتماعات الأقطاب الموارنة في بكركي عام ٢٠١٦، للتوافق على إسم أحدهم لرئاسة الجمهورية.
لقد أثبتت التجارب المريرة في بلد التسويات، أن التقوقع داخل الشرانق الطائفية والمذهبية، وأحياناً المناطقية، لا يساعد على سلوك طريق الحلول الناجعة. بل على العكس تماماً، يزيد الخلافات تعقيداً، ويؤجج مناخات التعبئة الطائفية، ويُطلق العنان للمزايدات الشعبوية، في وقت أشد ما يكون فيه البلد، بحاجة إلى فتح جسور التشاور والتواصل والحوار بين القيادات المختلفة، بحثاً عن المخارج من دوامة الأزمات المستمرة، وتعزيزاً للثقة بصيغة العيش الواحد، وسعياً لعودة الجميع إلى حضن الدولة، التي تبقى الملاذ الأول والوحيد لكل اللبنانيين، مهما تعددت طوائفهم، ومهما بلغت خلافاتهم.
ولكن من المؤسف حقاً أن كل محاولات الحوار التي جرت بين الأطراف اللبنانية، دون رعاية خارجية، لم تصل إلى نهاياتها السعيدة، وذلك منذ إتفاق الرئيسين بشارة الخوري ورياض الصلح على صيغة الإستقلال، بدعم بريطاني ورعاية عربية، وصولاً إلى إتفاق الطائف برعاية سعودية كاملة، وبدعم عربي ودولي واضح.
أما طاولات الحوار التي عُقدت في إطار لبناني محض، في مجلس النواب وقصر بعبدا، فقد بقيت قراراتها حبراً على ورق، وكان آخرها «إعلان بعبدا»، الذي خرج منه حزب الله في اليوم التالي، معتبرا أنه لا يساوي قيمة الحبر الذي كُتب به! رغم أن الأمم المتحدة إعتمدته كوثيقة دولية حول الوضع اللبناني.
من هنا أهمية الدور الذي تقوم مجموعة الدول الخماسية في تشجيع اللبنانيين على التواصل والتشاور، وكسر الجليد بين القيادات السياسية والحزبية، ومعالجة الخلافات المزمنة بالتحاور، والبحث عن حلول وسطية وتسووية، تكفل إخراج البلد من نفق الأزمات التي يتخبط بها، والتي لن يكون ثمة علاج لها قبل إنتخاب رئيس الجمهورية، وعودة الإنتظام في عمل المؤسسات الدستورية، وفي مقدمتها مجلسي النواب و الوزراء.
لم يعد خافياً أن اللجنة الخماسية صُدمت، بعد الحراك الأخير، بما لمسته من معاندة ومكابرة من بعض الأطراف السياسية، التي يُفترض بها أن تكون في مقدمة المُسهّلين لإنهاء الشغور الرئاسي، والحفاظ على دور وهيبة المركز المسيحي الأول في الدولة.
وتبين أن بعض الأفرقاء اللبنانيين يحاول البحث بين ركام الأزمات عن مكاسب شخصية وفئوية، وكأن لبنان مازال يتحمل مثل هذه الأنماط من التفكير الأناني، الذي أوصل البلاد والعباد إلى مسلسل الإنهيارات المستمرة.
لكن يبدو أن التقاء أشهر الصوم عند المسلمين والمسيحيين، كل ربع قرن تقريباً، بما يعزز الإيمان بالخالق الواحد، يبقى أسهل من إلتقاء القيادات السياسية اللبنانية مرة كل ست سنوات لإنجاز الإستحقاق الرئاسي في موعده الدستوري!