العشبُ الذي راهنَ عليه الحاكمُ التركي مظفَّر باشا، بأنّه سينبُتُ على طريق بكركي نتيجة الخلاف العنيف بين البطريركية والباشا.
يبدو، أنّ هذا العشبَ أخذَ بالزوال أمام الزوّار، تمهيداً للطريق التي سلكَهَا المسيح: من القدس، إلى صيدا، إلى قانا، إلى صور.
ويبدو، أنّ ربّك شاء أنْ يقتطعَ العشبَ من الطريق التي خطاها البطريرك أنطون عريضة، فكان لقاءُ القمّة الروحية في بكركي.
في 25 كانون الثاني 1941، دعا البطريرك عريضة إلى مؤتمر في بكركي شاركتْ فيه شخصيات من مختلف الطوائف وفي طليعتهم: بشارة الخوري ورياض الصلح، وصدرَ عن هذا اللقاء بيانٌ، كان من مقرراته إرساءُ أسُسِ الميثاق الوطني، وهي المقررات التي اعتمدها رياض الصلح في بيان الحكومة الإستقلالية الأولى(1).
هل سيؤولُ بيان القمة الروحية اليوم – ولبنان قد عاد إلى مناخات 1941 – إلى إرساءِ أسُسِ الميثاق الوطني المهزوز، واسترجاعِ سيادةِ الإبن الضال الذي اسمه الإستقلال…؟
إذا فشلَتْ دولةُ رجال الدولة، فهل تنجح دولةُ رجال الطوائف…؟
وإذا كان العُقْمُ التناسلي لم يمنَّ علينا اليوم برجال على مستوى بشارة الخوري ورياض الصلح والبطريرك عريضة والإمام موسى الصدر والإمام محمد مهدي شمس الدين، فهل من الصعب في الظرف الصعب أن يتشبّهوا بهم إنْ لم يكونوا مثلَهُمْ…؟
الإمامان: موسى الصدر وشمس الدين جاء في صيغةٍ لهما عُرفَتْ بصيغة 1977، إستَبقا بها وثيقة الوفاق الوطني ودستور الطائف الصادر سنة 1990، وهذه الصيغة تقول: «بأنّ لبنان وطنٌ نهائي لجميع أبنائه… وهو مبدأ – حسب الإمام شمس الدين – وُضِعَ ليس ترضية للمسيحيين بل كان ضرورةً لبقاء كيان لبنان، وليس لمصلحةِ لبنان وحدهُ، بل ولمصلحة العالم العربي والعالم الإسلامي بما يتعلق بالتنوُّع والتعددية السياسية».
وبهذا المعنى، يُضيفُ الإمام موسى الصدر «بأنّ لبنان ضرورةٌ حضارية للعالم نتمسّك بوحدتهِ ونصون استقلالهُ»(2).
وهذا، يتلاقى مع مأْثَرة البابا يوحنا بولس الثاني في: «لبنان الرسالة».
ومن وصايا الإمام شمس الدين للشيعة: «بأنْ لا يسعى أيٌّ منهم إلى أن ينشئ مشروعاً خاصاً للشيعة في وطنهِ وأن يقوموا باندماجٍ في محيطهم ينسجمُ مع الإندماج العام في الوطن ومع الشعب اللبناني كلّهِ»(3).
وهذا الإندماج المسيحي – الإسلامي هو الذي يحققُ وحدة الساحات الداخلية، ويحولُ دون خوف الداخل من الخارج، وخوف الداخلِ من الداخل، وهو الذي يؤكِّدُ الولاء الوطني المطلق وقيام الدولة وسلامة الوطن.
وأنّ الولاء للوطن شرف، والتنازل للوطن شرف، والإنكسار للوطن انتصار.
كلّ الذين تكلموا في القمّة الروحية شدّدوا: على قيام الدولة القوية، على بسط سلطة الدولة على الأرض، على الوحدة الوطنية، والتصدّي للعدوان، وتنفيذ القرار الدولي 1701 كاملاً، وعـدم الإستقواء الخارجي في الصراع الداخلي، وانتخاب رئيس للجمهورية.
إنّها المعزوفة نفسها التي يكرّرها السياسيون حتى الإجترار، وتظل أرضُ البلاد مزروعةً بعشب مظفّر باشا الإسرائيلي، يلتهمها النار ويُستكملُ الدمار وتستمر فيها الشهادة والإبادة.
هل يكتفي رجال القمة الروحية بأنْ يبتهلوا إلى الله ليستجيب لتضرُّعاتهم الوطنية، وأن يُقيموا مجالسَ العزاء وصلاة البخور عن روح الدولة الشهيدة، ويترحَّموا على الشهداء ويتمنّوا للجرحى الشفاء.
بل عليهم أن يقوموا بانتفاضةٍ ثائرة ويعتصموا تحت قبّة البرلمان لعقد قمَّة روحية سياسية وطنية، من شأنها إخضاع أصحاب تنفيذ القرارات إلى اتخاذ موقف وطني جريء لانتشال لبنان قبل فوات الأوان.
وإلاّ: فقد ينتهي بيان رجال القمّـة بالتصفيق، وننتهي نحن معهم ومع هذه الدولة برقصةٍ غجرَّية فوق بُرَكٍ من دمِ الطيور المذبوحة.
1 – من مقال بعنوان الميثاق الوطني: د. حسان الخطيب أستاذ القانون والعلوم السياسية.
2 – في لقاء الإمام الصدر مع وفد من نقابة المحررين: 18/1/1977.
3 – الإمام محمد مهدي شمس الدين: الوصايا: ص: 47-48 – دار النهار: 9/2002.