عشرون يوماً مفصليّة ما قبل مؤتمر الفاتيكان، في ذلك الخميس الأبيض الذي سيصادف فيه الأوّل من تمّوز 2021. يخطئ مَن يظنّ أنّ بكركي هذه المرّة سيمكن تخطّيها. ما يحدث اليوم في بكركي هو عمليّة تحرير السيادة اللبنانيّة المختطفة من سلطة الفساد والسلاح ومَن تمثّلهما. فهل ستنجح بكركي حيث فشلوا جميعهم؟
المشكلة الأساسيّة في لبنان هي لدى الفريق المتسلّط على السلطة، أعني ما كان قبل العام 2005 تيّاراً وطنيّاً حرّاً، و”حزب الله” الايراني الذي لم يتلبنن يوماً. أمّا لماذا هذان التوصيفان فذلك لأنّ التيّار صار تيّارات من العام 2005 حتّى اليوم وما بقي منه سوى طيف المؤسس، وبالنسبة إلى صفة الوطني فهو باع وطنيّته، ورهن حريّته في 6 شباط 2006 يوم وقّع لـ”حزب الله” على تنازله عن حريّته وقدّم له سيادة لبنان مقابل أن يصل حيثما وصل اليوم. وبالنسبة إلى “حزب الله” فهذه مسألة ليست بحاجة إلى أيّ توضيح لأنّ أمينه العام في كلّ مرّة يطلّ علينا يتحفنا بالتزامه بالولاء لإيران ويتنكّر للبنانيّته بالعلن. وفي كلّ فرصة لا يوفّر أيّ اعتداء على السيادة اللبنانيّة، وآخرها إعلانه عن نيّته الذهاب إلى إيران والتفاوض مع الحكومة الايرانيّة ليستورد النفط والبنزين والمازوت منها لحلّ الأزمة اللبنانيّة التي افتعلها، ضارباً بعرض الحائط الدّولة والحكومة والسيادة لكأنّه هو الدّولة وسيادته فوق أيّ سيادة أخرى.
وعوض الدّخول في مسيرة الاصلاح والتغيير الحقيقيّة صار شريكاً مضارباً مع الفاسدين كلّهم ودخل بالمحاصصة والصفقات، واتّبع نهجه الذي ابتدعه في الديموقراطيّة التعطيليّة ليبتزّ حليفه حيناً وخصومه السياسيّين حيناً آخر. فوصل الوضع إلى ما وصل إليه اليوم. والأكثر من ذلك اتّبع النّهج الذي تعلّمه من المدرسة السوريّة البعثيّة في إلهاء النّاس برغيفهم وحبّة دوائهم وبنزين سيّاراتهم، وما قام به الأسد طوال أربعة عقود ليوصل شعبه إلى ما وصل إليه أخذ مع سلطة اليوم أربع سنين فقط فتقدّمنا على نظام الأسد وتفوّقت ليرتنا على ليرته بالانحدار.
ولمّا استلما البلد بالكامل، وإذعاناً منهما لإرادة الناس الذين قالوا كلمتهم في 17 تشرين 2019 ذهبا ليشكّلا حكومة اختصاصيّين مقنّعة مرغمين، فكان ما كان، وأثبتوا فشلهم لأن لا نيّة حقيقيّة عندهم بالعمل الجدّي. وبعد قرابة العشرة أشهر من عرقلة الحريري لتشكيل حكومته تحت ذرائع رخيصة في الطائفيّة والصلاحيّات لشدّ العصبيّات، لم يتبقَّ أمام بكركي سوى أن تحمل كرة النّار بيدها لتستطيع بذلك الحفاظ على إرث الآباء والأجداد. من هنا أتت دعوة البطريرك الراعي إلى الأساقفة اللبنانيين جميعهم ليتباحثوا في الصرح عن سبل الانقاذ قبل الذهاب إلى مؤتمر 1 تمّوز 2021 في الفاتيكان.
ولم يعد خافياً على أحد امتعاض سيّد الصرح من الذين يغطّون أيّ سيادة فوق سيادة الدّولة؛ وأعني هنا سيادة سلاح “حزب الله” حتّى لو كانوا من أهل بيته، ولا يخفي سيّد الصرح شعوره بدعم مَن يتجرّأ دوماً ويدافع عن حريّة الوجود والكيان، تماماً كما حصل بعد الاعتداء السافر للناخبين السوريين في ذلك اليوم ومن قلب ساحات كسروان. فلا يمكن لبكركي أن تحيد عن هذا الخطّ الكيانيّ التاريخي الذي رسمته للبنان منذ زمن كفرحي والبطريرك مار يوحنّا مارون.
هؤلاء الذين عقدوا صفقة مع الشيطان وباعوه هذا الارث اللبناني الكياني. لذلك بكركي تأخذ زمام المبادرة وتنتفض. وهي لم تتأخّر يوماً. ومَن يريد لبنان الحياد فهو مع البطريرك، ومَن يريد لبنان التّاريخ والوجود فهو مع بكركي. فعاموس النبي حذّر في القديم يهوذا واسرائيل بالدمار الشامل، ولم تشفَ من دناسة ورجاسة زناها الوثني إلا بعد السبي والتدمير الكامل، أخشى ألا يشفى لبنان إلا بسقوط القصور أرضاً وجعلها خربة بلا ساكن. حذارِ… الأرض لا تحرق مرتين.
قد نشهد في هذه الفترة المزيد من التوتّرات بهدف الضغط على بكركي قبل 1 تمّوز كي تذهب مكسورة ولا ترجع مرفوعة الرأس أبداً. وفات هؤلاء كلّهم أنّ بكركي صخرة وعلى هذه الصخرة بنى الربّ كنيسة شعبه هذه، وقوّات الجحيم المتشدّقة والدّاعية إلى تحالف أقلّوي لتحافظ على مكتسباتها، أو لتجعل منها ميراثاً شرعيّاً لها وحدها، لن تقوى على صخرة بكركي ولبنان. حكومة لبنان اليوم موجودة في قلب الكنيسة الجامعة المقدّسة الرسوليّة لتحلّ السلام حيث لا يريد هؤلاء كلّهم سوى الحرب والدّمار. وتعمل “الكوريا” في البطريركية المارونية ليل نهار على إدارة الشؤون الأساسية بتوزيع المهام على رجال ثقة، وهي محاطة بكوكبة من العلماء في لبنان والانتشار، وعلى اتّصال وثيق بالهيئات الدولية كلّها وفي عدّة قطاعات.
وما سيحدث في الأوّل من تمّوز هو مدعاة خوف لأعداء بكركي كلّهم؛ هؤلاء الذين ترتجف عظامهم عندما تتحرّك بكركي، وعندما تتكلّم، فهم يصمتون لا إجلالاً بل خوفاً وارتعاداً. ومهما حاولوا، وسيحاولون حتماً، إيماننا بلبناننا لن يتزعزع، وكلّنا إيمان بأنّ لبنان لن ينكسر لأنّه يملك تاريخاً مجيداً، وحاضراً صامداً ومقاوِماً من أجل الحرية الشخصيّة الكيانيّة، فلا خشية ولا خوف على مستقبله. ومن له أذنان للسماع… فليسمع !