ينتهي عام 2019 مثقلاً بالمشكلات والاضطرابات الكبرى، التي أشعلت انتفاضة 17 تشرين الأول، والتي أدت إلى استقالة الحكومة برئاسة سعد الحريري، وانطلاق عملية التأليف الحكومي التي رست على الدكتور حسّان دياب بعد ستين يوماً من استقالة الحريري حُرقت خلالها أسماء عدّة قيل انّها «مفتعلة» لبقاء الحريري في الحكم.
اليوم، وفيما لبنان على أبواب عام 2020، «لم يعُدْ لدينا مجال للمغامرة»، يقول البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي في عظة الأحد، ويكَرِّر «تأكيد مطلب شبان الانتفاضة وصباياها في تشكيل حكومةٍ مستقلَّةٍ عن الأحزاب السياسيَّة»…
هو كلام وطني ترجمته في السياسة، أنّ المسؤولين اليوم أمام مفصل تاريخي مهم، وانّ وقوع لبنان في عمق الانهيار والإفلاس سيتحملون مسؤوليته امام التاريخ والأجيال، وبالتالي، كل المطلوب اليوم الخروج من الأنانية الطائفية والحزبية ومنطق الزبائنية السياسية الى المنطق الوطني العام لإنقاذ ما تبقّى من مقدرات الوطن والجمهورية والنظام.
منذ انطلاق شرارتها، والانتفاضة حاضرة في صلاة الراعي اليومية المسائية في بكركي الى العظات يوم الآحاد، ما عدا نقاشات المجالس الخاصة، حيث هناك دعوة متكررة إلى تحقيق مطالب الثوار المعيشية والاقتصادية والاجتماعية، وصولاً إلى العناوين الوطنية الكبرى.
فبكركي لا يمكن إلّا أن تكون في قلب الحدث. لكنّها لا تملك عصاً سحرية، ولا جيوشاً وأجهزة ومجلساً برلمانياً لتغيير المعادلات، وهي «ليست دولة ولا حزباً سياسيّاً لتقديم المبادرات الانقاذية، هي تتكلم فقط بالمبادئ، ومن هنا يجب تحديد المسؤوليات، ومساءلة الجهات الفعلية التي يجب أن تقوم بالمبادرات الإنقاذية للبلد». «والسلاح الذي في يد بكركي لا يتخطى إلّا التوجيهات وفي القضايا الوطنية الكبرى، ولا تتدخّل في التفاصيل السياسية الصغرى»، بحسب ما يقول المطران بولس صيّاح لـ«الجمهورية».
ولأنّ اللبنانيين يتوقون الى التغيير والحريّة، من البديهي أن يكون الرهان في الأوقات الصعبة على دور بكركي، انطلاقاً من مواقفها التاريخية في مراحل وطنية وسياسية عدّة. واليوم كما الأمس، يمكن إيجاد «ظلّ» بكركي في أكثر من حدث واستحقاق، هي تطالب المسؤولين أكثر بحماية المتظاهرين وعدم التعرّض لهم، كما لا يغفل عنها أهمية دور القوى الأمنية والجيش فتدعو أيضاً الى احترام جهودهم وتعبهم.
يطلق البطريرك ورجال الصرح صرخاتهم في وجه السلطة الفاسدة، كهنته خطبوا في ساحات الانتفاضة، منذ اليوم الأول من 17 تشرين، من البترون الى جبيل، فغزير، الى الزوق وجل الديب، حضروا، حملوا هتافاتها وشاركوا بها المؤمنين في القداديس. رهبان باركوا المنتفضين، ومنتفضون قرعوا أجراس الكنائس انذاراً كلما دق الخطر.
لا شكّ في انّ بكركي تشعر اليوم بالخطر قادماً وبسرعة، لذلك تحذّر، وتنبّه، وتصوّب، وعلى الآخرين أن يعتبروا، لا أن يستمرّوا في ممارسات توحي وكأنّ العملية مجرّد منازلة بين فريقين، السلطة والشارع، فيما الأمور، وعلى ضوء التقارير الدولية والمؤسسات المالية العالمية، تؤكّد أنّ الأسوأ مقبل على لبنان ولا مفرّ، طالما نشاط الفساد مستمرّ، وباسم عناوين كبرى تتحقق المكاسب، باسم «الميثاقية» تتمّ المحاصصة الحزبية والطائفية، وباسمها يتمّ تقاسم الوطن ومقدّراته. فكانت دعوة الراعي إلى «التَّجدُّد والعبور من زمن المحاصصات الطَّائفية إلى منطق دولة المواطنة الحاضنة للتَّنوُّع التي تَرفُضُ تقاسُمَ الوطن ومقدّراته باسم الميثاقيَّة».
كلام الراعي كان متقدماً، لا بل ضاهى الشارع بانتفاضته، شكّل خريطة طريق لكلّ مطالب المنتفضين، وللمنهج السياسي والوطني الذي لم يُخَطّ بعد على وثيقتهم الرسمية. فأكد أنّه في السياسة «لبنان لا يُحكم لا بالغلبة لا بالهيمنة، ولا بالمواجهة، ولا بحكومة اللَّون الواحد، لكي لا يَشعُر أيُّ مكوِّنٍ أساسيٍّ في لبنان بأنَّه مُقصى أو مُهمَّشٌ». فبلغة بكركي تاريخياً، أيّ وطن لا يقوم بمؤازرة جميع أبنائه هو وطن غير معافى، وغير مكتمل البنيان، ومهدّد بالزوال، والأمثلة كثيرة على ذلك في تاريخ لبنان القديم والحديث.
يذهب الراعي في العمق لوضع مداميك التغيير الحقيقي، فيطالب بـ«منهجيَّة جديدة في العمل السياسيِّ، ترفُضُ ذهنيَّة المحاصصات السِّياسيَّة باسم الطَّوائف والمذاهب، التي أفقدَتِ الوطن مقدّراته، وينبغي أن تستندَ هذه المنهجيَّة الجديدة إلى المهنيَّة والشَّفافيَّة في العمل الحكوميّ المنتظَر لإنقاذ الوطن».
هذا بالتأكيد يتطلب تغييراً في الذهنية والعقلية، وهذا التغيير في رأي مصادر قريبة من بكركي لا يبدأ فقط من الشارع، إنّما من خلال الوعي السياسي والإدراك الوطني. وهذان المفهومان يمكن ترجمتهما في طريقة الاقتراع والتصويت في الانتخابات النيابية، حيث للمواطن القرار الحسم في إنتاج السلطة السياسية التي يراها كفوءة لتتولى أموره.
اليوم في السياسة، تشدّد مصادر قريبة من الصرح على ضرورة الاستماع الى مطالب الناس، وهناك ضرورة لإعطاء الرئيس المكلّف فرصة لكي يشكّل حكومته بعد مرور أكثر من شهرين على الانتفاضة والقوى السياسية المعنية بالملف عاجزة عن الوصول الى تفاهم.
وتجزم المصادر بأنّ «أحداً لا يستطيع ان يتخطى الانتفاضة، وكلّ كلام من هذا النوع هو شعبوي وغير دقيق. الانتفاضة فعلت فعلها عند جميع الناس، أكانوا سياسيين ام حزبيين أو غيره. والرهان عليها كبير». وربما عظمة ما حصل تمكن قراءته بين سطور ما استهلّ به الراعي عظته أمس: «وطننا دخل منذ 17 تشرين الأوَّل الماضي في مخاضٍ لولادة «لبنان الجديد».