مبادرة الراعي أمام امتحان التلاقي «الإسلامي – المسيحي» لإنجاز معركة التحرّر من الهيمنة الإيرانية
يقف اللبنانيون في موقع المتفرّج على المواجهة الدائرة بالمباشر بين الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصر الله والسفيرة الأميركية لدى لبنان دوروثي شيا. يُصيب فارس سعيد في توصيفه «إن في لبنان اليوم زعيمان هما نصر الله وشيا». وهو توصيف من شأنه أن يُستكمل بسؤال عما إذا كان قد فات الأوان على تجنيب البلاد الأثمان المنتظرة جراء الاشتباك المستعر والمفتوح على شتى أنواع التصعيد.
لا يبدو الجواب على كثير من الإيجابية، لكن ثمّة نافذة فتحها البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي الذي رفع الصوت، مناشداً رئيس الجمهورية العمل على فكّ الحصار عن الشرعية والقرار الوطني الحرّ، وطالباً من الدول الصديقة الإسراع إلى نجدة لبنان كما كانت تفعل كلما تعرّض لخطر، والأهم متوجهاً إلى منظمة الأمم المتّحدة للعمل على إعادة تثبيت استقلال لبنان ووحدته، وتطبيق القرارات الدولية، وإعلان حياده.
ففي غمرة العجز السياسي الداخلي لحماية لبنان من أتون السقوط، يخوض «سيد بكركي» معركة حياده بوصفها «ضمان وِحدته وتموضعه التاريخي في هذه المرحلة المليئة بالتغييرات الجغرافيّة والدستوريّة، وقوّته وضمانة دوره في استقرار المنطقة والدفاع عن حقوق الدول العربية وقضية السلام، وفي العلاقة السليمة بين بلدان الشرق الأوسط وأوروبا بحكم موقعه على شاطئ المتوسّط».
يأتي موقف الراعي في عظته وكأنه يقول إن هناك موقعاً وسطاً ما بين نصرالله ودوروثي شيا يمكن من خلال إنقاذ لبنان. يصعب التكهن ما إذا كانت بكركي عازمة وقادرة في آن على قيادة المشهد السياسي، على المستوى المسيحي أولا، والوطني ثانياً، على غرار ما فعلة البطريرك الراحل مار نصرالله بطرس صفير حين أطلق نداءه الشهير في العام 2000 الذي أسس فيه لمعركة تحرير لبنان من القبضة السورية. فالمهمة شائكة مع كبر المأزق وثقل القبضة الإيرانية وصرامة القرار الأميركي. سيتحول الصرح البطريركي «محجاً» علّه يمكن المراكمة على ذاك الضوء الآتي من كوَّته. ستلاقي القيادات المسيحية المعارضة موقف الراعي، لا بل أن بعضها سبقه، غير أن الأنظار ستتجه إلى الشريك المسلم، ذلك أنه ما كان ممكناً للبنان أن يتحرر من القبضة السورية لولا تكوّن وحدة مسيحية – إسلامية وتلاقي هاتين الإرادتين، وهذا لا بد من توفره راهناً لتحرره من القبضة الإيرانية.
ومن هنا، تكتسب زيارة السفير السعودي وليد البخاري إلى الديمان أهميتها، والتي حصلت بناء على توجيهات القيادة السعودية، تماماً كما تحمل زيارة زعيم «تيار المستقبل» سعد الحريري الى بكركي من دلالات بوصفه «كلام البطريرك ببطريرك الكلام» وتأكيده على تمسكه بالعلاقة مع المرجعية البطريركية المارونية بما تمثله من صرح الحوار والاعتدال في لبنان. وتشكّل زيارة الرئيس فؤاد السنيورة على رأس وفد من لجنة متابعة «مؤتمر الأزهر للمواطنة والعيش معا» و«وثيقة الأخوة الإنسانية» المؤلفة من شخصيات لبنانية مهتمة بتعميق العلاقات الإسلامية – المسيحية وتعميقها، خطوة متقدمة للعمل والدفع «من أجل حوار وطني شامل».
وكان السنيورة ثمّن من دار الفتوى كلام الراعي الذي حضر على طاولة المجلس الشرعي الأعلى برئاسة مفتي الجمهورية عبد اللطيف دريان، وهدف بيانه إلى الإشارة إلى المناخات الإيجابية لدى المرجعية السنية. فهل تلاقي دار الفتوى «سيد بكركي»؟
من البديهي أن هناك شعوراً ماساً بالحاجة إلى التحرك بعدما باتت كل أنواع المخاطر محدقة بلبنان، على مستوى وجوده، ورسالته – النموذج وعيشه المشترك، وانتماءه العربي وهويته الجامعة، ونظامه الاقتصادي الحر، واعتباره جسر عبور وتلاق بين الغرب والشرق. وما ستسعى إليه لجنة المتابعة، التي تلقفت مبادرة الراعي، هو العمل على تحصين المبادرة وتحويلها مبادرة وطنية تخرج عن المرجعيات الروحية والزمنية والوطنية التي دعتها في بيانها إلى تحمّل «المسؤوليات الوطنية مع البطريرك، والالتفاف حول: الشرعية اللبنانية المتمثلة بالدستور ووثيقة الوفاق الوطني، الشرعية العربية التي ترعى نظام المصلحة اللبنانية والعربية معا، والشرعية الدولية التي من دونها نجد أنفسنا خارج العالم».
وإذ تؤكد أوساط متابعة أن دار الفتوى ستمد يدها إلى أي مبادرة وطنية، تكشف عن الهاجس المتنامي لدى المفتي دريان بالحاجة إلى مبادرة على مستوى الطائفة السنية لمواجهة التحديات التي تواجهها هذه الطائفة، والتي تمظهرت في الاعتداءات التي تعرضت لها العاصمة بيروت ومعها طرابلس وقبلها صيدا، وهي تحديات لا تزال ماثلة، وستصبح أكثر خطورة مع ازدياد الخناق على لبنان وشعور «حزب الله» بأن الحصار يشتد عليه.
وتشير هذه الأوساط إلى أن المبادرة التي بدأ التحضير لها سيكون منطلقها شخصيات سنية مدنية، لقناعة من يقف وراءها بأن لدى هؤلاء هامشاً أوسع من الحركة خارج حسابات «سياسة الترغيب والترهيب» التي تفرض نفسها على المشهد اللبناني، والتي قد تدفع ببعض الأقطاب السنية إلى الابتعاد عن الواجهة، لكنها تعول على أن تشكل إطاراً جامعاً وأوسع مع تقدم الوقت وما سيحمله معه من تحولات واستحقاقات وضغوط.
فليست هناك أوهام لدى القوى السياسية اللبنانية حول قدرة الداخل وحيداً على خلق تحولات كبرى في البلاد وعلى تعديل موازين القوة فيها، لكن ثمة من يعتقد أن تطبيق نظرية «الانتظار على ضفة النهر» قد تستقيم مع بعض المكونات، على غرار الدروز، التي ترى قيادتهم التاريخية ان جلَّ ما هو المطلوب اليوم هو الصمود في وجع المجاعة الآتية وتحصين الجبل من الأمواج العاتية، غير أنها لا يمكن أن تنطبق على «البيت السني» الذي عليه أن يعالج التحديات التي تواجها مناطقه وناسه على أكثر من صعيد، ولا سيما أمنيا واقتصادياً معيشياً، والحؤول دون توسع الاختراقات ضمن هذه البيئة، والتي تلعب فيها سرايا المقاومة دوراً بارزاً. وسيكون عليه تالياً إعادة العمل على استعادة دوره في المعادلة الوطنية، إذا كان ما زال من أمل في انقاذ لبنان، وعدم الاكتفاء بالتفرج على المواجهة الدائرة بين نصر الله وشيا، وترك «حزب الله» الذي يلعب على حافة الهاوية يُسقط لبنان فيها.