لا تكفي أكثر تقنيات علم النفس الإجتماعي تطوراً لتقدير عمق وتشعّب الفوالق بين اللبنانيين وضمن الطائفة الواحدة، كما لا تكفي كلّ أدوات القياس المتوافرة لتحديد مقدار التناحر ومنسوب الرفض المرتفع لفكرة الإنتماء الى متّحد سياسي سقفه الدستور وحدوده القانون.
الإنقسام بين اللبنانيين أكثر من طائفي، ولو لم يكن الأمر كذلك لتمكّنت البطريركية المارونية من جمع أبنائها من المرشحين للرئاسة أو من كبار الناخبين تحت مظلتها. الدور الرعوي لبكركي الذي نجح مراراً وفي مفاصل حرجة في تحويل وحدة الطائفة لتأكيد صلابة الموقف السياسي أو للتأكيد على إحدى الثوابت التأسيسية للبنان، لم يكن هذه المرة قادراً على مواجهة الإنقسام الماروني أو التخفيف من حدّته، فلم يكن أمام البطريرك بشارة الراعي سوى وضع اللبنانيين في سلة واحدة بتحميلهم جميعاً وعلى قَدم المساواة مسؤولية الفراغ الرئاسي.
صحيح ما قاله البطريرك «أن الناخبين ليسوا جميعهم موارنة ومسيحيين وأنّ القادة المسيحيين يتحملون جزءاً من مسؤولية الشغور الرئاسي» لكن القول إنّ المسيحيين مختلفون على هوية الرئيس بينما الآخرون مختلفون على هوية الجمهورية» فيه الكثير من طفولية سياسية مفترضة لدى المسيحيين والموارنة بشكل خاص، وكأنّهم أُخذوا على حين غرة إلى حيث هم الآن. فهل يكفي افتراض هذه الطفولية أو عدم بلوغ الرشد السياسي بعد ولاية رئاسية تربّع على كرسيها الأول من أعطاه الموارنة والمسيحيين الكتلة النيابية الأكبر؟ ومن استأثر بالقسط الأكبر من التعيينات؟ ومن أدخل لبنان في عزلة عربية ودولية؟ ومن جاهر بتجاوز الدستور وبتحالفات لا تراعي أبسط قواعد السيادة والميثاقية التي طالما تمسّكت بهما بكركي؟ وهل كلّ ذلك كان موضع إجماع مسيحي؟ وهل ارتبط ذلك فقط بخيارات حدودها القصوى هوية الرئيس؟
الحقيقة أنّ هناك مسلمين ومسيحيين مختلفون على هوية الرئيس كما أنّ هناك مسلمين ومسيحيين مختلفون على هوية الجمهورية. وبالتالي فإنّ الإنقسام الذي حال دون قدرة بكركي على جمع أبنائها لا يختصره خلاف على هوية الرئيس بأبعادها المناطقية والحزبية أو العائلية، بل يتعداه الى الخلاف على خيارات سياسية متعلّقة بهوية الجمهورية. المسيحيون المختلفون على هوية الرئيس لا يجارون بكركي في حرصها على تطبيق المادة 49 من الدستور بل يعطلون جلسات المجلس النيابي كما لا يجارونها في احترام المادة 75 منه و«اعتبار المجلس النيابي هيئة إنتخابية لا هيئة تشريعية يترتّب عليه إنتخاب رئيس الدولة دون مناقشة أو أي عمل آخر، بل يستثمرون ويمارسون الإبتزاز من خلال المساومة على المواد المدرجة في جدول أعمال جلسات تصريف الأعمال للحكومة، كما يقايضون تأمين النصاب لجلسات ما سُمّي بتشريع الضرورة لقاء استدراج مواقف من هذا المرشّح أو ذاك. ألا يتعارض ذلك مع ما أكّده البطريرك في عظته الأخيرة بأنّ «لبنان ليس نظاماً ينتقل من فريق إلى فريق، إنما أمّة تنتقل من جيل إلى جيل عبر الآلية الديمقراطية دون ما سواها»، بل يتعداه نحو التأكيد أنّ لبنان ينتقل من نظام الى نظام ومن عالمه العربي الى عالم مجهول تحت ستار ديمقراطية يمارسها مسيحيون ومسلمون لا يختلفون على هوية الرئيس بل على هوية الجمهورية ومستقبلها.
إنّ الإستمرار في اعتبار الإستحقاق الرئاسي مبارزة بين مرشحين لبنانيين هو تجهيل للعبة الإقليمية والدولية في المنطقة العربية ومنها لبنان. كما أنّ الإعتقاد أنّ مجاراة اللعبة الإقليمية والتفوّق عليها ممكنٌ من خلال معادلة محلية تستمد دينامياتها من إنتماءات طائفية وهويات سياسية لا ترقى الى مستوى المواطنة هو إمعان في توهم القدرة على استعادة المبادرة.
ما يستطيعه بعض المغامرين من المسيحيين يبقى في حدود التهويل بالتخلي عن هوية الجمهورية أو الرهان على ذلك من أجل تحقيق مكاسب محلية، ولكن ما يجهلونه هو أنّ استعادة الهوية أو ضمان موقعهم وقدرتهم على التأثير في الجمهورية الجديدة لن يكون متاحاً. هذا ما يحتّم التماهي بين هوية الرئيس وهوية الجمهورية، هذا ما حاول البطريك تجاهله وهذا ما لا تدركه طفولية هؤلاء المغامرين.
يزداد اليقين لدى اللبنانيين مع كل إشراقة شمس باستحالة توصل السياسين الى مخارج للأزمات اللبنانية المتلازمة والمتوالدة في كل مفاصل المرفق العام. انضمت الازمة القضائية الى سابقاتها في الرئاسة الاولى والاقتصاد بعد الفشل في تأمين الحد الادنى من الاصلاحات في مرافق الامن الاجتماعي. تعبّر المقاربات التي يطلقها السياسيون الممسكون بالملف الرئاسي وآخرها المؤتمر الصحفي للوزير السابق جبران باسيل عن نرجسية عميقة لا تتيح امكانية للخروج من الازمة بمعزل عن أشخاصهم أوعبر رؤاهم التي لا تقبل النقاش، ولا يختلف في هذا المقام حزب الله عن حليفه الذي يضفي على خياراته الرئاسية كما التحريرية قبلها فرادة وتألقاً لا يدركه أحد سواه.
يصبو اللبنانيون جميعاً ومعهم القادة النرجسيون الى لقاء باريس المرتقب التي سيعقد في السادس من شهر فبراير القادم بمشاركة مساعدة وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأدنى باربارا ليف، مستشار الرئيس الفرنسي باتريك دوريل، المستشار في الديوان الملكي السعودي نزار العلولا، ونائب وزير الخارجية القطري محمد بن عبدالعزيز الخليفي ــ وبانتظار تأكيد المشاركة المصرية ــ في محاولة للوصول الى ورقة سياسية واضحة تتضمن برنامج عمل للخروج من الأزمة السياسية وانتخاب رئيس للجمهورية وتشكيل حكومة منسجمة وإنجاز الإصلاحات الإقتصادية المطلوبة.
يستند السقف السياسي لاجتماع باريس الى مرتكزات ثلاث، البيان الصادر عن اجتماع ولي العهد الامير محمد بن سلمان والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون خلال زيارة الأخير إلى الرياض، والمبادرة الكويتية التي حازت توافق جميع دول الخليج حول الرؤية لحل الأزمة اللبنانية واستعادة العلاقات مع الدول العربية ودول الخليج العربي وآخرها البيان الثلاثي الذي صدر عن ممثلي الولايات المتحدة والسعودية وفرنسا في نيويورك على هامش إجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة. وهذا يعني ان لقاء باريس سيبحث في خارطة طريق تلتزم اتفاق الطائف، وانتخاب رئيس للجمهورية وتشكيل حكومة قادرين على استعادة الثقة الدولية بلبنان من خلال الالتزام بالقرارات الدولية ووقف استخدام لبنان كمنطلق أو ساحة لاستهداف الدول العربية كشروط ملزمة للمباشرة في أي دعم مادي للبنان عربي أو من قبل صندوق النقد الدولي بما يجعل إمكانية حصول خرق بالطرق الكلاسيكية المعتمدة محدودة جداً.
وبالتوازي مع غياب ايران او من يحمل طموحاتها عن اللقاء الباريسي تعيش الجمهورية الاسلامية وأذرعها ظروفاً غير مسبوقة أقل ما بقال فيها أنها تعبر عن سخط دولي حيال سلوكها ورغبة واضحة في تقليم طموحتها. فما الذي تبدل بعد عهود من التسامح الدولي حيال كل ما ارتكبته طهران من انتهاكات لسيادة الدول وتهديدها لاستقرار المنطقة وأمن الملاحة البحرية؟ وهل تجاوزت طهران الخطوط الحمراء؟
لا بد من التوقف عند التزامن بين الضربات الموجعة التي تتعرض لها الميليشيات الايرانية في الشمال الشرقي لسوريا وتحديداً في منطقة البوكمال والهجمات بالطائرات المسيرة التي ينفذها الموساد الاسرائيلي على البنية التحتية الايرانية لتطوير الصواريخ وتطوير المسيرات وتأكيد مصادر أميركية بكل أن هذه الهجمات تنفذها اسرائيل.
* مدير المنتدى الإقليمي للدراسات والإستشارات