Site icon IMLebanon

إلى أين وصلت مبادرة بكركي لـ«التدويل»؟

 

بعد دعوة أثارت الكثير من الكلام والحِبر المُسال والسجالات حول أحقية المطالبة بمؤتمر دولي لحل الأزمة اللبنانية، يعتصم مطلقها البطريرك الماروني بشارة الراعي بالصمت في وجه التصويب على مبادرته، من دون تفويت الفرصة دوما لانتقاد الطبقة السياسية القائمة التي يُحملها مسؤولية ما يجري للبنانيين.

 

وبعد أسابيع على إطلاق النداء من بكركي، لا تزال أصداء الدعوة نحو مؤتمر دولي بعد مطالبة قبلها بحياد للبنان، واسعة لكن من دون صدى فعليّ لها باستثناء لدى القوى التي تدور تاريخيا في فلك الكنيسة المارونية.

 

لكن راعي الكنيسة يحتفظ ببراغماتية كبيرة بدا معها، حسب زواره، متفوقا حتى على الحلفاء الذين يبدون على يمينه سياسيا، مُهذباً دعواتهم في السياسة والشارع، وصائغاً للإطار الذي يجب أن يدور عبره النضال لتحقيق مطالب «السيادة والحرية».

 

وللبطريركية سطوتها الأخلاقية على مريديها ما مكّنها من سحب فتيل التفجير والقتل من الشارع حيث الحليفين الأهم لتحريك التظاهرات وقطع الطرقات: «القوات اللبنانية» و«الكتائب».

 

تم ذلك من قبل الحزبين على مضض. وقبل أيام طرح البعض فكرة العودة الى الشارع وتم جس النبض بالفعل، لكن القرار كان حتى اللحظة بعدم العودة مع انتظار ما ستؤول إليه المرحلة الحالية الحبلى بالمفاجآت والتي تركت «المستقبليين» وحيدين من بين أحزاب الحكم في الشارع، وسط ترقب بعدم الاستمرار بهذا القرار دوماً لما له من مخاطر على السلم الأهلي يعلمها التيار تماماً.

 

على أن في خضم المراوحة الحكومية المؤذية اليوم، يُبدي البطريرك الماروني إستياءه الشديد من أقطاب السياسة. وهنا ثمة انتقاد للجميع. ومن الطبيعي أن يأتي ضمنهم رئيسا الجمهورية والحكومة المكلف كونهما في ظاهر المشهد، لكن الطبقة السياسية في لبنان لا رجال فيها ولا مسؤولين.

 

إستذكار صفير

 

وإزاء لا مبالاة من هم في الحكم غير العابئين بمأساة الناس التي تتعمق يومياً، يخرج كل من يلتقي بالراعي ليعكس خارج الصرح أحياناً ما لا يقوله الراعي داخل أروقة قاعة الاستقبال. لكن من يزور سيد الكنيسة المارونية يخرج بانطباع ان الراعي مطمئن لمبادرته الاخيرة. هو يعلم أنه لا يزال في أول الطريق على هذا الصعيد.

 

ويستذكر البعض دأب سلف الراعي البطريرك نصر الله صفير حين اطلق ومجلس المطارنة الموارنة دعوتهما في وجه التواجد السوري في لبنان في 20 أيلول من العام 2000، بعد أشهر على الانسحاب الاسرائيلي في 25 أيار.

 

حينها، جاء النداء بعد سنوات من اعتراض صفير على ما آلت إليه امور اتفاق الطائف في لبنان، الذي رأى أنه لم يطبق خاصة لناحية انسحاب قوات الجيش السوري من لبنان. ومنذ اواسط التسعينيات من القرن الماضي، أخذت دعوات صفير بالتتالي ليرتفع الصوت أكثر فأكثر، ولينسب البعض الانسحاب السوري في 26 نيسان من العام 2005، الى صفير نفسه الذي أطلق الشرارة.

 

في مقابل هذه الرؤية المتفائلة، ثمة من يرى ان واقع الامور اليوم يختلف عن السابق وان كانت الازمة الاجتماعية اعظم واشد فتكا باللبنانيين والتي يُحملها المحيطون بالكنيسة من السياسيين الى «حزب الله». فموازين القوى اليوم مختلفة والازمة اشد تعقيدا واركانها يحتفظون بحظوتهم في الحكم مدعومين من الخارج، والانتفاضة الشعبية لم تؤد الى هز عرش هؤلاء.

 

لكن الراعي يؤكد أنه اجرى القراءة اللازمة قبيل اطلاق دعوته الى المؤتمر الدولي وحتى قبل مطالبته بحياد لبنان، ويعلم تماما أن الامور طويلة الامد ولا يتوقف كثيرا عند عدم حماسة بعض الذين تربطهم ببكركي علاقة التحالف مثل «تيار المستقبل» و«الحزب التقدمي الإشتراكي» وغيرهما.. الى «التدويل».

 

لذا فإن توقيت إطلاق المبادرة لم يكن خاطئاً او نتيجة قراءة مبتورة للواقع المحلي والاقليمي والدولي. هو طريق طويل جدا وشائك يخوضه رجل دين يؤمن بخاتمة مسار دعوته، حسب ما يستشف زواره. إيمانه هذا يدفعه الى عدم التوقف أيضا امام تخوين مبادرته من قبل متطرفي المحور الآخر، وهو الإيمان نفسه بالحوار مع الفريق المقابل لإقناعه بالحفاظ على المركب قبل غرق الجميع.

 

لكن يبدو الطريق طويلا أيضا في الحوار المنشود بين بكركي و«حزب الله» الذي لم تضف دعوة الراعي المتجددة الى حكومة اختصاصيين، إليه سوى المزيد من العوائق بين الطرفين. إلا أن من في بيئة الأخير لا يربط تحسن العلاقة المهزوزة مع الحزب بطريق الراعي المُصمم نحو مبادرته التي تتقاطع مع أصوات خارجية تؤيد المسار نفسه الذي اتخذه الراعي، سواء بطبيعة ندائه الى الحياد وإبقاء لبنان بعيدا عن الصراعات أو بدعوته الى الإصلاحات الجذرية.

 

لكن في مقابل الراعي وخصومه، ثمة من يوجه انتقادا لتجنب ملامسة كنه المعضلة اللبنانية المتمثلة بنظامه الطائفي الذي شكل أساس البلاء للبنان منذ نشوئه، وعدم حماسة أركان الطوائف الى دعوات الانتفاضة الشعبية الحقيقية التي خرجت على الجميع ودعت الى بناء دولة مدنية حقيقية بعيدا عن حكم الطوائف ورجال الدين. ولعل هذا الانتقاد هو الأكثر جدية لمبادرة بكركي كونه يأتي خارج السياسة واصطفافاتها الطائفية والمذهبية.