Site icon IMLebanon

«خطايا بكركي» على طريق تعيين رئيس أساقفة بيروت

   

 

مع رحيل الكاردينال مار نصر الله بطرس صفير، طُويت صفحة مهمة من تاريخ الكنيسة المارونية. بالأمس، مع انعقاد السينودوس الخاص للكنيسة الانطاكية المارونية، وما سبقه ورافقه من أجواء أحاطت بانتخاب خلف لراعي أبرشية بيروت المارونية المطران بولس مطر، الذي انتهت ولايته الأصلية والممددة، يمكن القول إن صفحة أخرى مهمة طُويت من تاريخ الكنيسة. ليس بسبب «تعيين» مطران خلَف لآخر، بل لأن الكنيسة بإدارتها الحالية تلاعبت إلى الحد الأقصى بكل الأعراف والتقاليد منذ مجمع سيدة اللويزة عام 1736، وبكل الأسس التي تقوم عليها الكنيسة بتنظيمها الإداري وعمل أبرشياتها في لبنان وبلاد الانتشار. طُويت صفحة صفير بمعنى غياب الصوت القوي والمعارض الحقيقي داخل مجلس المطارنة، وغابت أصوات الذين يقولون لا، لمصلحة من يطبّل ويزمر لأي قرار. في الأيام الأخيرة، جرت أحداث كثيرة مسيئة إلى الكنيسة، ومسيئة أكثر الكتابة عنها وكشفها بحقائقها المعنوية والمادية – المالية، والدسائس والمكائد التي حيكت والتدخلات التي جرت من رجال أعمال وسياسيين، وكيف أدارت بكركي الحالية كل ذلك، سراً وعلناً من دون أيّ حياء.

 

نقاط عدة يمكن الكلام عنها إلى جانب هذه الصورة السيئة:

أولاً ضربت الممارسات التي جرت حول انتخاب مطران جديد لبيروت كل فلسفة الكنيسة وأسرارها. لم تحترم الكنيسة أسرارها، فكيف يمكنها أن تحترم أسرار الآخرين، وهي التي سربت عمداً وتداولت بوضوح أسماء المرشحين لخلافة مطر، وكأننا أمام تشكيل حكومة جديدة. منع البطريرك مار بشارة بطرس الراعي والمقربون منه طرح أسماء، وزكوا سراً أسماء مع تبيان كامل صفاتها، وعلانية أسماء أخرى، بعضها للحرق وبعضها للانتقام منها وبعضها كي تكون كبش محرقة. عرف الراعي سلفاً من يريد وكيف يطبخ وليمته بهدوء، وأراد إبعاد الفاتيكان قدر الإمكان عن الانتخابات، رغم أن الاسم المقترح سيصبّ في نهاية الأمر لدى الكرسي الرسولي. كشف الراعي والمقربون منه الأسماء وتداولوا بها إعلامياً وسياسياً، رغم أن البطريرك نفسه طلب في نص نشر عند بداية المجمع من الأساقفة حفظ الأسرار، «احتراماً للكرسي الرسولي وقداسة البابا». فكيف سُرِّبت الأسماء، ومن ربح ومن خسر، وكيف سُرِّبت عملية الاقتراع وعدد الأصوات؟ وكيف حُرقت أسماء مطارنة، وماذا جرى في أروقة بكركي، وكيف أدار الراعي والمقربون منه بدهاء عملية الاقتراع؟وكيف يمكن الفاتيكان أن يعلم من التسريبات الإعلامية ما قرره السينودوس، علماً أنه يجب الاحتفاظ بالاسم سراً إلى حين إبلاغه إلى الفاتيكان والموافقة عليه خلال ثلاثة أشهر. مع التذكير بأنه سبق له أن رفض تعيين مطارنة لمجرد طرح أسمائهم علناً.

ثانياً، طرح اسم الأباتي نعمة الله الهاشم في حملة تسريب الأسماء المقدمة من المطارنة أو بكركي لخلافة مطر، هو من أسوأ الأفعال التي ارتكبتها بكركي في حق أهم رهبانية مارونية، لم تعرف بفضائحها، وفي حق واحد من أهم الشخصيات الدينية الحالية. الراهب الذي يترأس رهبانية محفورة في وجدان الموارنة يلجأون إليها في أيام تعثر كنيستهم ووطنهم، وتعرف معالجة مشكلاتها بعيداً عن الإعلام، والراهب الذي نهض بالرهبانية أخيراً وأطلق نفحة تجديد فيها، وضع اسمه للمماحكات، فيما تعرف بكركي أنه لا يُنتخب راهب، تقليداً، على أبرشية بيروت. ولا سيما أن الهاشم نفسه لم يسع إلى هذا التعيين. وعدم انتخابه عليها يعني أن مجلس المطارنة رفضه وكأنها تعاقبه على إنجازاته. وإذا صحّ أنه عُيِّن نائباً بطريركياً، فهذا لا يزيد شيئاً على رصيده الرهباني، ولو اعتبر تعيينه جائزة ترضية غير حميدة عن عدم تعيينه في بيروت.

ثالثاً، جرى التعامل مع أبرشية بيروت للموارنة، ليس على قاعدة أنها أبرشية بيروت بالمعنى الوطني، بعد الدور الذي أدّاه مطارنة بيروت – كالمطرانين يوسف الدبس وأغناطيوس زيادة على سبيل المثال لا الحصر – على المستوى الوطني – السياسي وعلاقاتهم مع مختلف الطوائف، حتى قبل إعلان دولة لبنان الكبير، نظراً إلى موقعها السياسي والجغرافي المنفتح على كل الفئات السياسية والحزبية والطائفية. ولم يجرِ التعامل معها بالمعنى الكنسي، وهي كُبرى الأبرشيات المارونية مساحةً وعدد كنائس (تضم الأبرشية مدينة بيروت ومناطق واسعة من عاليه وبعبدا والشوف)، بل جرى التعامل معها على أنها الأبرشية الأغنى مالياً وعقارات ومشاريع عمرانية. والأهم أنه جرى النظر إليها بصفتها أبرشية أولى، لتصبح الأبرشيات الأخرى في المرتبة الثانية أو الثالثة. هكذا ببساطة، رُوِّج لفكرة نقل مطران من أبرشية إلى أخرى، بصرف النظر عن الاسم الذي طُرح ومن زكاه ودعمه وسوَّق له كنسياً وسياسياً، وقام بحملة مركزة امتدت أشهراً طويلة لإيصاله. بهذا المعنى، أصبحت أبرشية بيروت تتفوق على غيرها من الأبرشيات، وصارت أبرشية جبيل أو غيرها من الأبرشيات غير ذات قيمة، وراعي الأبرشية الذي يفترض أن يكون خادمها ورئيسها، ويعمل من أجلها، حين عُيِّن على رأسها بموافقة الفاتيكان، هي محطة انتظار فقط ومطية من أجل الانتقال إلى أبرشية «أهم». بهذا الأسلوب الذي اعتُمد أخيراً، بات يحق لأيّ مطران من أبرشيات أخرى طلب نقله إلى الأبرشية التي يرى أنها أصلح وأهم وذات قيمة معنوية. ما جرى في هذا المجال – رغم أن الفاتيكان كان قد لفت مراراً منذ أشهر إلى أنه ممنوع نقل مطران من أبرشية إلى أخرى – ليس أمراً عابراً في حياة الكنيسة والأبرشية التي بات يعرف سكانها أن راعيهم كان يتعامل معهم على أنه مطران مؤقت، فيما يفترض أن يبقى فيها إلى حين انتهاء ولايته.

رابعاً، طرح أسماء مطارنة من بلاد الانتشار، أيضاً، رغم ما حذّر منه الفاتيكان مراراً، سمح بضرب فكرة أساسية تخصّ انتشار الكنيسة المارونية في الخارج. في المجمع الماروني الأخير، الذي شارك فيه للمرة الأولى مسؤولو الانتشار الروحيون، طرحت بقوة فكرة علاقة الانتشار الماروني بالكنيسة الأم في بكركي ولبنان. يقول النص: «إن موضوع الوحدة المارونية يفرض نفسه بالسؤال عمّا ستؤول إليه كنائس الانتشار إذا لم ترتبط روحياً وكيانياً بالكرسي البطريركي في لبنان». علاقة الكنيسة الأم بالانتشار طرحت أسئلة عدة في المجمع وتفرعت عنها عناوين عدة، وخصوصاً لارتباط الكنائس في بلاد الانتشار أيضاً بكنيسة روما، وصولاً إلى اللغة المستخدمة في القداس. ومن الأسئلة انتخاب أساقفة على هذه الأبرشيات، ممن وُلدوا فيها أو ممن هم من لبنان. ما حصل من طرح أسماء مطارنة انتشار للعودة إلى لبنان وتسلم أبرشية بيروت، يطرح الإشكالية نفسها أمام المنتشرين الذي يعتبرون أن المطران الآتي إلى بلادهم هو ظرفي، ولا يتعايش مع حاجاتهم وحياتهم، لأنه في فترة انتظار للعودة إلى لبنان. وهذا في حدّ ذاته تتمة لمشكلة أخرى تتعلق بفكرة طُرحت مراراً ورُفض البحث فيها في المجمع الماروني، تتعلق بفصل الأبرشيات في الانتشار عن الكنيسة الأم، وأي رغبة لمطارنة في العودة إلى لبنان وترك أبرشياتهم تعزز النزعة الانفصالية للأبرشيات عن كنيسة أنطاكية.

هذا بعض ما جرى قبل انتخاب مطران جديد لبيروت. والقضية لا تتعلق باسم المطران المنتخب، بل بمسار بكركي المتمادي في اقتراف الخطايا، وهو نهج سيتكرر لاحقاً على الأرجح في السنة المقبلة مع عمليات انتخاب مطارنة جدد.

«تعيين» لا انتخاب

سربت بكركي أمس خبراً عن انتخاب المطران بولس عبد الساتر مطراناً على أبرشية بيروت للموارنة ورئيس الرهبانية المارونية الآباتي نعمة الله الهاشم خلفاً لعبد الساتر، نائباً بطريركياً في بكركي. في المبدأ، يلتئم المجمع الأسقفي (يضم كافة مطارنة الكنيسة المارونية) لانتخاب خلف للمطران المستقيل أو المنتهية ولايته، ويُنتخَب المطران الجديد بطرح أسماء عدد من المرشحين، كلّ منهم على حدة. ومن ينَل الأغلبية المطلقة – ويحتمل أن ينال أكثر من شخص تأييد الأغلبية – يرسل اسمه إلى روما التي تختار اسماً من الأسماء المرسلة إليها. تختلف آلية انتخاب مطران جديد من بين الكهنة عن آلية «تعيين مطران»، لأن ما جرى في بكركي أمس، تعيين رئيس لأبرشية بيروت من بين مطارنة سبق أن طُبقت عليه عملية الاقتراع، وأجرى الفاتيكان تحقيقه سابقاً في شأنه عند تعيينه. وهذا يعني أن عملية الانتخاب اعتمدت في شأن الآباتي الهاشم فحسب. أما المرشحون الآخرون، فاعتمدت آلية مختلفة تردد أنها النصف زائداً واحداً. علماً أن مجلس الأساقفة الحالي انخفض عدده بوفاة الكاردينال صفير والمطران رولان أبو جوده.