تمكنت بكركي من تدوير الزوايا الحادة للخلافات المستحكمة بين القوى السياسية المارونية، وبالتالي استطاع «اللقاءُ الوجداني» برعاية البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي أن يقارب الملفات الساخنة، من دون أن يحرق أصابعه، وإن كان كثيرٌ من الجمر لا يزال كامناً تحت الرماد، خصوصاً أنّ المداولات التي حصلت قبيل إصدار البيان الختامي التوافقي عكست الانقسام الموجود، وتحديداً بين «التيار الوطني الحر» وتيار «المردة».
ولكن، كيف نجح لقاء بكركي في تجاوز الاختبار بـ«علامة فوق المعدل»، وماذا حصل في كواليسه؟
ليس خافياً انّ الدعوة التي وجهها الراعي الى الشخصيات والاحزاب المارونية للاجتماع تحت سقف بكركي انطوت على مغامرة سياسية، في ظل الخصومة التي تسود بين عدد من المدعوّين الأساسيين، وحتى التفاهم المفترَض بين «التيارالوطني الحر» و«القوات اللبنانية» بدا منذ فترة طويلة «خارج الخدمة»، على وقع الافتراق الحاد في الحسابات والمصالح، الى جانب الخلاف القائم بين «التيار» من جهة و«المردة» و«الكتائب» من جهة أخرى.
ومع ذلك، أراد الراعي عبر مبادرته أن يضع الجميع أمام الأمر الواقع، آملاً في أن يتمكن من إحداث الصدمة المطلوبة في الوسط السياسي الماروني، فيما شعر بعض المدعوّين أنّ اللقاء سيكون أمام إحتمالين:
إما ان يُترك على سجيّته فيصبح معرَّضاً للفشل تحت وطأة تجاذبات مكوناته، مع ما سيخلفه ذلك من تداعيات على موقع بكركي برمزيته الوطنية وهالته المسيحية، وإما أن يتمّ مسبَقاً تحضير أرضية سياسية له تمنع انزلاقه الى نتائج سلبية وتحول دون تفاقم الخصومات المارونية، علماً أنّ زعيم تيار «المردة» سليمان فرنجية استعاد خلال اللقاء تجربة مريرة حصلت في الماضي حين تلا اجتماعاً بين «المردة» و«الكتائب» في بكركي صدامٌ دموي.
على إيقاع هذه الهواجس، اتصل نائب رئيس حزب «القوات» النائب جورج عدوان الاثنين الماضي بأمين سرّ تكتل «لبنان القوي» النائب ابراهيم كنعان، واتفقا على عقد اجتماع ثنائي الثلثاء في مكتب كنعان في مجلس النواب.
تشاور كنعان مع باسيل وعدوان مع قيادة «القوات»، والتقيا في اليوم التالي حيث عرضا الاحتمالات التي تواجه اللقاء الماروني وما يمكن فعلُه على هذا الصعيد، كذلك ناقشا مقاربة كل من «التيار» و«القوات» للهدف المتوخّى منه.
وبعد نقاش، تفاهم كنعان وعدوان على الأمور الآتية:
– وجوب منع أيّ اشتباك سياسي في لقاء بكركي مهما كانت الظروف والاعتبارات.
– ضرورة الدفع في اتجاه الخروج بموقف مسيحي- وطني، وليس حزبياً ضيقاً.
– دعم موقع رئاسة الجمهورية.
– احترام الدستور وآلياته ورفص أيّ انقلاب عليه، وتأييد كل ما يتفق عليه رئيس الجمهورية والرئيس المكلف في ما خصّ الحكومة الجديدة.
– محاولة الخروج من الثنائيات المسيحية نحو بُعد أوسع.
يوم الاربعاء، انعقد تكتل «لبنان القوي» برئاسة باسيل، وأبلغ كنعان الى الحاضرين حصيلة مداولاته مع عدوان بهدف ايجاد صمّام أمان يحول دون انفجار اللقاء الماروني من الداخل، كذلك حصل تواصل مع بكركي ضمن القنوات المعتمدة لمناقشتها في الطروحات المقترَحة التي يمكن البيان الختامي أن يُبنى عليها، علماً أنّ وليد غياض تولّى باسم البطريركية المارونية جمع الأفكار من الجهات المدعوّة الى اللقاء، لجولجلتها واعتمادها نواةً لمسودة البيان.
بالتزامن مع هذا الحراك في الكواليس، أبلغ «التيار» و«القوات» الى نوابهما ضرورة إبداء الهدوء وتجنّب الاستفزاز خلال اللقاء وبعده، سعياً الى حمايته من خطر التعثر.
يوم الخميس، وبينما كان المدعوّون يتوافدون الى بكركي، عَقد كنعان وعدوان اجتماعاً جانبياً، تمّ خلاله تثبيت ما سبق أن تفاهما عليه، لكنّ المداخلات التصاعدية التي راحت تتلاحق اثناء الاجتماع الماروني الموسّع كادت تأخذه في اتجاهٍ سلبي، لو لم يحصل تداركٌ للموقف في الوقت المناسب.
كعادته، شرح فرنجية رأيه في صراحة، متّهماً «التيار الحر» بأنه يريد «الثلث المعطل» لذبح معارضيه المسيحيين، ومعتبراً انّ الحكومة تتشكّل فوراً إذا تنازل «التيار» عن مقعد واحد، فيما شدد باسيل في مداخلته على انّ النزاع المتصل بالعقدة الوزارية ليس مسيحياً، بل هو بين «المستقبل» ومجموعة من النواب السنّة، وسواءٌ كانت الازمة سنية – سنية او سنية – شيعية فلا دخل للمسيحيين بها، متوقّفاً عند مراحل استعادة الحقوق في مجلس النواب والحكومة، ولافتاً الى أنه لا يمكن إلغاء أحد ربطاً بعدد الوزراء، لأنّ العدد ليس قابلاً للتقريش في لبنان.
تشنّجت الجلسة الى حدٍّ ما، وإن بقيت تحت السيطرة، بينما علت اصواتٌ تدعو الى الاستعاضة عن البيان الختامي بالكلمة التي ألقاها الراعي، لكنّ الرأيَ استقرّ على إصدار بيان، تولّت لجنة الصياغة إقرارَه قبل أن تتحوّل لجنة متابعة.
بعد انتهاء اللقاء الماروني في سلام، توجّه كنعان وعدوان الى أحد مطاعم جونية حيث تناولا طعام الغداء الذي كان السمك طبقه الاساسي، وجرى عرض للنتائج التي أفضى اليها لقاء بكركي، كذلك اتفق الرجلان على تفعيل التواصل مجدداً بين «التيار» و«القوات» مع الحرص على عدم إعطائه طابعَ الثنائية الموجّهة ضد المكوّنات المسيحية الأُخرى، خصوصاً انّ هناك تفاهماً بين «القوات» و«المردة»، الى جانب أنّ «التيار» يسعى أيضاً الى إيجاد قواسم مشتركة مع الآخرين ضمن بيئته، كما يؤكد مصدر بارز فيه.