Site icon IMLebanon

لقاء بكركي بين مشهدين: إقليمي ومسيحي

 

لا يمكن الكلام عن اللقاء الماروني في بكركي من دون وضعه في إطار المشهد السياسي الأكبر في لبنان، وعلى مستوى المنطقة، والذي يفسِّر الأسباب الموجبة لانعقاده.

 

الدعوة إلى اللقاء الماروني جاءت في لحظة فراغ حكومي مفتوحة على أزمة اقتصادية وتهيّؤ المنطقة لمواجهة غير مسبوقة بين واشنطن وطهران، على وقع الدعوة إلى مؤتمر دولي- إقليمي في وارسو في 13 و14 شباط المقبل لحشد أوسع تحالف ضد إيران يتضمن خطوات عملية وجدول زمني لتحقيقها، الأمر الذي سيُدخِل المنطقة في مرحلة شديدة الخطورة تسبق احتمالات التوصّل إلى تسوية.

 

فالمشهد على مستوى المنطقة يوحي وكأنه تأسيسي الطابع وشبيه بالمنعطفات المصيرية التي يُعاد فيها تركيب الدول أو ترتيب أوضاعها من جديد، ويخطئ كلّ من يُقلل من حجم ما يُهيّأ للمنطقة أميركياً، ويبدو أنّ الأشهر الستة المقبلة ستكون حاسمة على هذا المستوى.

 

ومعلوم انّ الحرب أو التسوية مع إيران ستعيد هندسة الوضع في اليمن والعراق وسوريا ولبنان على أسس جديدة، ومعلوم أيضاً انّ دور «حزب الله» انتهى في سوريا، وأنّ بشار الأسد سيبقى في وضع «لا معلّق ولا مطلّق» في انتظار الاتفاق على سوريا الجديدة، ولكن بعد الانتهاء من الملف الإيراني، لأنّ اي حلّ للمنطقة يختلف بين مرحلة ما قبل التسوية مع إيران وبعدها.

 

ولذلك تم ترحيل كل الملفات لِما بعد الحل الإيراني، وهذا ما يفسّر الدعوة الأميركية إلى فَرملة اندفاعة التطبيع مع سوريا.

 

ففي كل هذا المشهد إنعقد اللقاء الماروني في بكركي في ظل مخاوف جدية من أمرين أساسيين: الأول، أن يفقد لبنان استقراره مع تأزّم المشهد الإقليمي ويتم استخدامه منصّة وصندوق بريد للرسائل الساخنة. والثاني، ان يكون التسخين مقصوداً أو مدبّراً ومخططاً من أجل تعديل الدستور، وفي الحالتين يجب اتخاذ كل التدابير اللازمة للحفاظ على سياسة «النأي بالنفس» ومنع تعديل الدستور.

 

وقد نجح لقاء بكركي في خطوتين بالغتي الأهمية:

 

ـ الخطوة الأولى، تتمثّل بالبيان الختامي الذي أكد ثوابت الكنيسة في حضور القوى السياسية ومشاركتها، ما يعني موافقتها على المبادئ الوطنية المؤسسة للكيان اللبناني وفي طليعتها الدولة والسيادة والدستور والحياد والشراكة والدور بوَحي المصلحة اللبنانية العليا.

 

ـ الخطوة الثانية، تشكيل لجنة متابعة للدلالة الى أنّ مفاعيل هذا اللقاء لن تنتهي مع صدور البيان الختامي، بل ستستمر في مهمتين أساسيتين:

 

مهمة التواصل والتنسيق وعقد اللقاءات وكسر القطيعة التي كانت قائمة بين أكثر من فريق، وهذا في حد ذاته مهم جداً من أجل وحدة صف مضبوطة تحت سقف بكركي وإيقاعها.

 

والمهمة الثانية وجود إطار جاهز إمّا لطرح قضايا تصبّ في خدمة تطبيق الدستور وتعزيز الدور الوطني المسيحي، وإمّا التصدي لأيّ تطور قد يطرأ ويستدعي مواجهة موحدة.

 

وإذا كان عقد اللقاء حصل على وقع الفراغ لبنانياً والمشهد الأكبر في المنطقة في ظل أحداثه المتسارعة، فإنه حصل مسيحياً في ظل مشهد جديد هو الأول من نوعه ويمكن اختصار محطاته بـ3 أساسية:

 

ـ أولاً، المصالحة بين «القوات اللبنانية» و»التيار الوطني الحر» والتي يتزامن اليوم بالذات ذكراها الثالثة، وعلى رغم صمود المصالحة وسقوط التفاهم السياسي، إلّا انّ الطرفين أظهرا حرصاً على عدم العودة إلى الماضي والقطيعة، ما يعني أنّ احتمالات إنعاش الشق السياسي تبقى قائمة ولو بدفتر شروط جديد ومختلف، وعدم العودة إلى ما قبل المصالحة ليس شعاراً، بل واقعة ثابتة بدليل أنها بقيت صامدة على رغم من المواجهة العميقة إبّان تشكيل الحكومة.

 

فالخلافات السياسية مشروعة وطبيعية، ولكن يجب أن تبقى في حدود الملفات المختلف حولها، ومن غير المسموح أن تتمدّد على كل شيء وتتحول عدائية.

 

فتاريخ 18 كانون الثاني 2016 هو من المحطات المضيئة في التاريخ المسيحي، ودليل على وعي وحكمة سياسية نجحت في تحقيق ثلاثة أهداف جوهرية:

 

رئيس مسيحي تمثيلي، مجلس نيابي تمثيلي، وحكومة تمثيلية، والطريق بين الرابية وبعبدا لم تفتح إلّا بعد «تفاهم معراب» الذي وضع الجميع أمام الأمر الواقع، وبالتالي العبرة أنه بالوحدة يمكن تحقيق المعجزات.

 

ـ ثانياً، إنتخاب الرئيس ميشال عون الذي أنهى الفراغ الرئاسي وكان يشكّل مصدر قلق كبير من تداعياته على البلد والدستور ودور المسيحيين في ظل دولة تسيِّر شؤونها من دون رئيس للجمهورية.

 

ـ ثالثاً، المصالحة بين «القوات اللبنانية» وتيار «المردة» التي أنهت آخر ملف نزاعي بين المسيحيين ينتمي إلى الحرب اللبنانية، وتشكل هذه المصالحة بدورها حكمة من القيادتين بطَي صفحة الماضي وفتح آفاق التعاون عندما تدعو الحاجة. وإذا كانت الحسابات السياسية مشروعة لكل طرف، إلّا أنّ الأساس يبقى في الإقدام على خطوة جريئة من هذا النوع تعكس رغبة في ترشيد العلاقات السياسية وتنزيهها عن كل الحسابات المصلحية.

 

فالمعطى الأساس للقاء الماروني هذه المرة أنّ عنوان المصالحة سيد الموقف، فلا قطيعة بين «القوات» و«التيار الوطني الحر»، ولا قطيعة بين «القوات» و«المردة»، والمعطى التمثيلي بكل جوانبه تحقق للمرة الأولى منذ العام 1990، والأزمات التي تعصف بالبلاد اليوم تقع على مسؤولية جميع اللبنانيين، باستثناء تشكيل اللقاء قوة ضغط لفك تشكيل الحكومة من أسره بغية استعادة الانتظام المؤسساتي والدينامية السياسية، وتَهيّؤ اللقاء مجتمعاً تحت سقف بكركي لكل ما يمكن ان يمس بدورهم الوطني او بالاستقرار اللبناني.

 

ولم يعد السؤال اليوم عن لقاءات ثنائية محتمل حصولها بين «القوات» و«التيار الحر» أو بين «القوات» و«المردة»، لأنّ بكركي أو لجنة المتابعة حَوّلت هذا التواصل أمراً واقعاً يتجاوز إرادة فريق أو الفريقين معاً، ومع فارق أنه تواصل يجمع الجميع ولمصلحة الجميع.