IMLebanon

لا تجعلوا جريمة القرنة كجريمة تفجير المرفأ

 

لا يستقيم حال أبناء الأرياف على ما يجري التعامل معه في جريمة القرنة السوداء. الناس هناك ليسوا في قلب المعادلة كما تعرفها المدن. بل تتحكّم العادات والتقاليد بكثير من الأفعال. التسامح عندهم حقيقي، ويحسن استعماله لتعزيز التواصل الإنساني، وحتى التجاري والتعاوني، بين أبناء هذه المناطق. لكنّ العصبية عنصر مكوّن لشخصية هؤلاء، والتوتر إذا ما ترافق مع دماء، تكون الأهوال حاضرة. وفي حالة لبنان، سنجد من بين أصحاب القرار في المركز من يريد استغلال هذا التوتر، أو هذه الدماء لغايات أخرى.

 

عندما يصرخ أبناء تلك المنطقة مطالبين القضاء بمعالجة النزاع العقاري، فهم يعرفون عمّا يتحدثون. يدرك هؤلاء أن المشكلات الصغيرة التي تبدأ بين أطفال، تجد من يأخذها إلى حروب دموية تستمر آثارها لعقود أو حتى لقرون. لذلك، يجب التعامل بجدية كبيرة مع نداء الأب هاني طوق، بالمسارعة إلى حسم النزاع العقاري. ويفترض بالمسؤولين عن القضاء في لبنان، من مجلس قضاء إلى نيابات عامة، إلى قضاة متخصّصين، التفرّغ لمعالجة هذه الأزمة التي ترخي بظلالها على ملفات حامية كثيرة.

 

ولا يحق لوزير العدل أن يتحدث عن عقبات تحول دون إنجاز القاضي العقاري في الشمال ملفه. يمكن لمدعٍ أو مدّعىً عليه الحديث عن عقبات، لكن لا يمكن للقضاء أن يتحدث عن عقبات. وإذا نطق القضاء، وأشهر هذه العقبات يساعد في تجاوزها، لا البقاء في دائرة الخوف؛ وبالتالي عدم إصدار أحكام تحسم خلافات عمرها أكثر من مئة سنة.

وثمّة أمر مستعجل أيضاً، يتعلق بالتحقيقات الجنائية والأمنية لتشخيص ما حصل، وكيف قُتل الشابان من أبناء بشري، وبرصاص من. وهي أمور لا يمكن التزوير فيها متى قام المعنيّون بوظيفتهم. هي مسألة علمية، وهناك أدوات حديثة لتحديد ما حصل. وليس منطقياً أن يتأخر التحقيق كثيراً. والخشية ليست من تخلّف مهني يمنع الوصول إلى حقيقة واضحة، بل من خضوع البعض لضغوط أو أهواء، تجعل ملف القرنة شبيهاً بملف تفجير مرفأ بيروت، وعندها يجري الخلط بين الدوافع وحقيقة ما حصل.

اليوم، يريد أهالي بشري معرفة كيف قُتل اثنان من أبنائهم، ويريدون، كما أهالي بقاعصفرين والضنية، معرفة من أطلق النار، ويريد الجميع معرفة حقيقة الوجود المسلح الذي أدى إلى ما حصل، وحقيقة الاشتباك الذي قيل إن الجيش خاضه مع مسلحين. ولم يعد كافياً القول إنه لطالما كان هناك مسلحون في هذه المنطقة، وبعد سقوط الدماء، لم يعد ينفع الحديث عن أن الناس اعتادوا على حمل المزارعين ورعاة الماشية أسلحتهم معهم، خصوصاً أن النزاع على المياه يكفي لقلب دولة رأساً على عقب. فكيف والجميع يعرف أن ما يحصل منذ عام 2001 في تلك الزاوية شكّل حالة استنفار دائم.

 

حتى فكرة أن يكون الجيش اللبناني مسؤولاً عن مقتل أحد الشابّين، ليست أمراً عادياً، لكنها حدثت مرات كثيرة، مع الجيش ومع القوى الأمنية والعسكرية الأخرى التي قتلت مدنيين عن طريق الخطأ، أو ضمن سياق مواجهة مع مطلوبين للعدالة. والجمهور لا يحكم على الجيش أو على القوى الأمنية متى كان الأمر خارج النزاعات السياسية. بهذا المعنى، يجب على قيادة الجيش اللبناني المبادرة إلى أخذ القرار والكشف عن كامل معطيات ما حصل، وتحديد المسؤوليات العملانية، قبل أن يفرض على القضاء السير في إجراءات تقود إلى خلاصة حكم عادل.

من يراقب المشهد عن بعد، يتصرف وكأنّ الأمر عبارة عن مشكلة تحصل يومياً في كل لبنان. لكنّ العاقلين من أبناء تلك المنطقة يتحدّثون بجدية كبيرة عن مخاوف من تمييع التحقيقات وتأخير إعلان النتائج، ويشيرون إلى توتّر كامن لا يستبعدون أن يقود إلى تغليب الثأر على المحاسبة. وفي هذه الحال، سيكون من الصعب توقّع مآلات الأمور هناك.

اللافت في ما يحصل، هو الغياب التام لوزير الداخلية القاضي بسام المولوي عن المشهد، وهو ابن الشمال الذي يعرف خصوصية الأمر وحساسيته، وهو من يقود، من موقعه الوظيفي، جهازَين أمنيّين كبيرين هما فرع المعلومات والمديرية العامة للأمن العام، إضافة إلى قطعات قوى الأمن. وبدل أن ينشغل الوزير بمطاردة مغرّد انتقد حكومة في الجزيرة العربية، أو محاباة مرجعية دينية من خلال ملاحقة أصوات تعترض على رقابة غير مشروعة، وبدل أن يستعرض إنجازات لا يشعر بها المواطن المنهك يومياً، يجدر به الانتقال للإقامة في مدينته طرابلس، عاصمة الشمال، وتولّي إدارة هذا الملف، بجوانبه الأمنية والسياسية والاجتماعية والأهلية، وأن يقوم لمرة واحدة بدور يجعله يستحق الموقع الذي يشغله.