بعد فترة انقطاع طويلة فرضها العزل والتباعد بسبب وباء «كورونا»، كان من المفترض ان يشكل الحراك الشعبي بداية انطلاقة حاشدة لإعادة طرح اللائحة المطلبية الاصلاحية والتي لغاية الآن بقيت صوتاً في البرية، ولم تنفّذ الطبقة السياسية الحاكمة أي بند منها، خلافاً لوعودها. لكنّ التحضيرات التي حصلت خلال الايام التي سبقت يوم السبت، شهدت دخول قوى وأحزاب سياسية على الخط، والأهم إدخال عناوين سياسية عن سابق تصور وتصميم، وهنا بيت القصيد.
لذلك شهدت الايام التي سبقت خلافات حول ضرورة عدم الخلط بين المطالب الاصلاحية والعناوين السياسية ما أدى الى انسحاب العديد من القوى، وإفقاد التحرّك عفويته الشعبية وهو ما ميّز انطلاقة تشرين. أضف الى ذلك دخول قوى سياسية معارضة للتحرّك على خط تسعير الخلافات وإحداث تشققات، خصوصاً في طرابلس. كلّ ذلك جعل المشاركة الشعبية عادية في افضل الاحوال. لكنّ السؤال الابرز كان هل ثمّة رسائل خارجية ودولية عبر تظاهرة السبت موجّهة الى «حزب الله» بموازاة المفاوضات مع صندوق النقد الدولي والشروع في تطبيق قانون «قيصر» حول الحدود اللبنانية – السورية؟ كان الواضح انّ التركيز في هذا الاطار تمحور حول طبيعة القوى المشاركة، خصوصاً على المستوى السنّي والتي شهدت حضوراً جديداً هو بهاء الحريري شقيق الرئيس سعد الحريري ومنافسه في الوقت نفسه.
ذلك انّ «النكهة السياسية» المسيحية انتفَت بعد إعلان «القوات اللبنانية» عدم المشاركة ولو انها تركت حريّة القرار لمحازبيها. وكذلك على الساحة الدرزية مع إحجام الحزب «التقدمي الاشتراكي» عن المشاركة. لذلك تركّز الرصد السياسي على الساحة السنية، وتحديداً مع حركة أنصار بهاء الحريري ومعه الوزير السابق اشرف ريفي، حيث كان التركيز على موضوع سلاح «حزب الله». وفي معرض التحقّق ما اذا كان مُرسِل هذه الرسالة دولة خارجية، بَدا عدم وجود أيّ أثر لذلك. فالسعودية ومعها الامارات غائبتان كلياً عن لبنان وعن عناوين الصراع فيه، وانشغالهما يتركز على الصراع الكبير الدائر مع ايران وتطورات الموقف الاميركي والساحة اليمنية.
امّا تركيا، والتي تردّد أنها مهتمة بإحياء نفوذ لها على الساحة السنية الشمالية في لبنان، فبَدا انها كانت بعيدة جداً عمّا حصل بدليل انّ مناصري الجماعة الاسلامية، والتي تعتبر الاقرب الى المناخ السياسي التركي، كانوا غائبين عن المشاركة. أضف الى انّ تركيا تدرك جيداً «قواعد» التأثيرات الخارجية في الساحة اللبنانية الحساسة. وبما معناه انّ أي تدخّل او تأثير لها لا يمكن ان يحصل بخلاف الرغبة الاميركية. يبقى في النهاية احتمالات وقوف واشنطن وراء الرسالة. لكنّ التدقيق الفعلي في «زوايا» حراك السبت لم يُظهر وجود بصمات اميركية فعلية. فالزوايا التي تنطلق منها عادة تأثيرات وضغوط واشنطن بقيت هادئة وبعيدة عن أي حركة، وهو ما لاحَظته معظم الجهات التي تتولى في العادة تفكيك شيفرة الرسائل الدولية. لا بل اكثر، فإنّ هنالك من قال انّ واشنطن لم تكن مسرورة بالنتائج التي أفضى اليها حراك السبت، خصوصاً لناحية انتقال الصراع من صراع مطلبي داخل البيئة الشيعية الى صراع مذهبي وَحّدَ الشيعة وأزالَ «التشققات» بين أطرافها. وهو في الحقيقة مشهد مناقض لمشهد اعتصامات وتظاهرات صور والنبطية وبعلبك. وقد يكون التأكد من عدم وجود بصمات اميركية أدى لاحقاً الى إلغاء التظاهرة ضد السفارة الاميركية.
ووفق ما تقدّم فإنّ معظم الآراء أجمعت على انّ ما حصل هو نتيجة حسابات ضيقة بشعارات كبيرة وجّهت في الحقيقة ضربة لحراك 17 تشرين. فخلال مرحلة التحضيرات لتظاهرة السبت اندفع أنصار بهاء الحريري في عملية التحضير شمالاً وبقاعاً، وفي المقابل عمل تيار «المستقبل» ليس فقط على مقاطعة التظاهرة، بل ايضاً على الحد من تجاوب الشارع السني معها وهو ما يفسّر ايضاً غياب صيدا عن المشاركة. كان الهدف عدم مَنح بهاء الحريري باباً واسعاً بل نافذة صغيرة جداً.
وبالتالي، فإنّ الشعار السياسي الذي طُرح بَدا وكأنه من إنتاج داخلي ولأسباب داخلية، خصوصاً انّ شعار مواجهة «حزب الله» هو شعار جذّاب على مستوى الشارع السني. وكما كان متوقعاً فإنّ الامور تدحرجت تلقائيّاً نحو الأسوأ وبسرعة. عند جسر الرينغ بداية، والاهم بين عين الرمانة والشياح والأخطر ليلاً في الطريق الجديدة وبربور، وسط شائعات وتحريض مذهبي. مصدر ديبلوماسي أوروبي رفيع ومهتمّ بالتفاصيل اللبنانية، اعتبر انّ كل ما حصل كان متوقعاً باستثناء ما حصل في الشياح – عين الرمانة، والذي جاء وليد لحظته ومن دون تخطيط مسبق، كما قال السفير الاوروبي البارز.
وأجمعت الاوساط الديبلوماسية على اختلافها والقوى السياسية اللبنانية على تنوّعها على الأداء الممتاز والدقيق للجيش اللبناني. في الواقع لازمَ قائد الجيش جوزف عون والى جانبه مدير المخابرات غرفة العمليات طوال الوقت منذ الصباح الباكر وحتى ساعة متأخرة من الليل.
وجاءت حصيلة إصابات الجيش لتعكس المهمة الصعبة والقاضية بضبط الوضع زهاء 25 جريحاً احدهم إصابته بالغة، وأدّت الى فقدان عينه بصورة دائمة وذلك في إشكالات منطقة الناعمة. في وقت غابت فيه كليّاً السلطات السياسية على أنواعها وبقي الجيش وحيداً في الميدان.
وفي تَتبّع مواجهات عين الرمانة تبيّن انّ مجموعات كبيرة من الدراجات النارية دخلت الى عين الرمانة خلال ذروة التوتر ومواجهات وسط بيروت، وبدأت الاحتكاكات بالشتائم وتطورت الى إطلاق نار في الهواء، قبل ان ينجح الجيش في السيطرة على الوضع. ولكن هل حملت الدراجات النارية رسالة ما؟
في التحقيقات الاولية تبيّن انّ هذه المجموعة لم تنطلق من الشياح بل من حي السلم، وهي جابَت العديد من المناطق قبل الدخول الى عين الرمانة، ما يدفع لاستبعاد فرضية توجيه رسالة ما.
أمّا عند جسر الرينغ فإنّ الشائعات لعبت دورها والتي تبيّن انها لم تكن بمعظمها صحيحة. فعندما يَتفلّت الشارع يصبح المنطق السائد هو منطق الغريزة. وهذا ما دفعَ بالوضع ليتطوّر الى احتقان كبير في الطريق الجديدة وبربور وحصول إطلاق نار كثيف، ألزمَ الجيش على تحريك مُجنزراته وإدخالها ونشرها في المنطقة استعداداً للأسوأ، وهو ما أدى الى اعادة السيطرة على الوضع بعد حوالى النصف ساعة.
وفي طرابلس استمرت الاشارات المتهورة، خصوصاً مع تطويق واستهداف مراكز قوى الامن الداخلي ومحاولة الدخول اليها واحتلالها. فهنالك من استمر في اندفاعاته المتهورة وغير المدروسة وكأنه يريد ان يقول إنه لا يريد وجود الدولة. الأرجح انه لم يكن يعرف ماذا يفعل.
ولكن ماذا في النتائج السياسية؟
أولاً، توجيه ضربة للحراك الشعبي الفعلي، وقد يكون من الصعب إعادة إحياء تحركات شعبية في المدى القريب. لكنّ البديل قد يصبح السعي لإقفال الطرقات. وحدها القرارات الانانية و»الغَبية» للسلطة السياسية قادرة أن تعيد إحياء التظاهرات.
ثانياً، بَدا لافتاً الفراغ السياسي الشامل والكامل طوال النهار، فيما كان من المفترض تأمين المظلة السياسية المطلوبة لحماية عمل الجيش الدقيق والصعب. فماذا لو حصل خطأ ما؟ ألم يكن يجدر بالسلطة السياسية تأمين حضورها أساساً لحماية الجيش؟
ثالثاً، بَدا انّ موقع رئاسة الحكومة لم يؤمّن لحسان دياب موقعاً ولو بالحد الادنى داخل طائفته، فظهرَ وكأنه غير موجود.
رابعاً، ظهرَ انّ نتائج يوم السبت لعبت لصالح سعد الحريري القادر في ظروف مماثلة على تأمين الغطاء المطلوب والحضور اللازم. وهو ما لمسه جميع أخصامه بدءاً من «حزب الله» نفسه.
خامساً، لم يكن هنالك من وجود للحكومة، وظهر مرة جديدة انّ قدراتها ضعيفة جداً.
سادساً، كسب «حزب الله» في إعادة توحيد الساحة الشيعية خلفه وترميم كل التصدعات التي كانت تُقلقه، لكن في المقابل ضاعفَ من خسارته على الساحة المسيحية بسبب مواجهات عين الرمانة، والتي ستستفيد «القوات اللبنانية» من نتائجها في إطار توسيع مساحة نفوذها الشعبي.