IMLebanon

الارهاب الأسود في باريس يسابق الوفاق الأبيض في بيروت

حوار التنوع يضمن رسوخ التعايش ضد التحجر

والجمهورية تواجه مأزق التغيير بالاصرار على التوافق

في العاشر من شهر الحب، جلس الرئيس الشهيد رفيق الحريري، في داره الكائنة في محلة قريطم، يدغدغه حبور وفرح، وتنادمه آمال كبار.

بادره أحد زواره: ما سبب الفرح وما هي أسباب الحبور؟

افتر ثغر الرئيس الشهيد عن ابتسامة حيية، وهو العائد للتو من مملكة الخير لقد أحضرت أفخر وأجمل الثريات لمسجد الإمام الأمين الجاري بناؤه في باحة ساحة البرج، تجاه نصب الشهداء في العاصمة.

وأردف الرئيس الشهيد، كما نقل عنه زائره: أريد بيروت عاصمة التعايش في جمهورية لا تعيش الا بالتنوع الفكري والديني، وهذه الصفات وحدها هي التي تجعل عقول الناس والنفوس، عصية على التحجر، منيعة في وجه التطرف. ان في العالم العربي عشرات المساجد، في مكة المكرمة والرياض وأبوظبي ودبي وفي قطر وعُمان. لكن فيه عاصمة واحدة تلتقي فيها مآذن المساجد وأجراس الكنائس، وتتعالى في أجوائها أصوات لله الواحد. نحن في نعمة لا ندرك جميعاً أهميتها: إنها جمهورية التنوع والتعدد في الطوائف، وتسود فيها ارادات الانفتاح والارتياح الى طلب السماح من الله سبحانه وتعالى وطلب رضاه في كل وقت وآن. بيروت عاصمة المحبة والتوافق، ومدينة التآخي والاخوة.

يروي الزائر نفسه، أن الرئيس الحريري غمرته في تلك اللحظات أمائر الأسف، لأن ثمة من يحاول أن يزرع مكان الاخوة، بذور الشر والفراق، لكنه راح يؤكد أن المحبة أقوى من الكراهية.

تذكر الزائر هذه الوقائع، بعد سماعه الأخبار الآتية من باريس، ومفادها أن عناصر متطرفة من داعش اقتحمت دار مجلة ساخرة فرنسية، لممارسة الثأر وارتكاب أبشع الأعمال، وهي تزعم أنها تقتص من حفنة ضالة استهدفت الاسلام ديناً وقيماً وتربية.

الا ان الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند استطاع ان يستدرك عقدة الاعتدال والحوار والتكامل بين الاديان، واظهرت تظاهرة باريس امس الاحد، عمق الاعتذار عن الاخطاء.

وزعماء اوروبا حضروا من كل العواصم، الى عاصمة العواصم، ليؤكدوا للعالم رجاحة الانفتاح على الانغلاق.

لقد ارتفعت في باريس، عبارة واحدة غطت الاجواء كلنا شارلي أو اصبح ترداد كل مواطن يعلو، بعبارة أنا شارلي، في اشارة الى الهجوم الذي استهدف مجلة شارلي ايبدو.

كان الاسبوع الفائت أسبوع الجنرالات، جنرالات الارهاب والغباء، وأسبوع جنرالات الثلوج التي غمرت لبنان وغطته من أدنى السواحل الى اعلى القمم والجبال، وربما لم تكن هذه هي المرة الأولى التي يلتقي فيها الاسود والابيض، لكنها كانت هذه المرة مميزة في اجتماع الشر والخير في آن، وفي مكان واحد.

طبعاً، لا أحد ضد مجلة للسخرية تصدر في العاصمة الفرنسية، لكن ليس الجميع هنا في لبنان، وفي اي مكان آخر مع اعتماد السخرية، وهي ارفع انواع التعبير، كتابة ورسوماً، ضد المقامات الدينية والرموز المقدسة والمحترمة، لكن الجميع مع اعتمادها كأبرز أساليب النقد البناء.

في حقبة الاربعينات لجأ الاستاذ الكبير سعيد فريحه الى الصحافة الساخرة، وراح، من خلال تأسيسه مجلة الصياد يناوئ الانتداب الفرنسي، ويعارض بشدة وضراوة بعض الرموز الاستقلالية التي راحت تمارس الفساد والضلال، وتقيم حكم السلاطين مكان حكم المبدعين، وتنشر الفساد وتحمي الفاسدين.

واستطاع سعيد فريحه بقلمه الحر وأسلوبه الساخر، أن يؤلب الرأي العام اللبناني ضد الفساد والفاسدين، ووقف معه نصف الحكم الاستقلالي يتقدمه رياض الصلح، ويقف معهما الرئيس الاستقلالي الأول بشارة خليل الخوري، ويحمل شقيقه السلطان سليم على الاستقالة من النيابة، ويكف عن مداخلاته وضغوطاته على الحاكمين.

الا ان الاسبوع الحالي كان أسود في باريس، وسقط ١٤ شهيداً بين فنان وصحافي، وثلاثة قتلى من الذين هاجموا مجلة شارلي ايبدو، في حين كان أبيض في بيروت، حيث بدأ حوار راقٍ بين الأنداد في السياسة، جاء بشهادة القادة الكبارفي البلاد، ممتازاً ومميزاً، قد يقود الى تفاهم وطني، يعزز من احتمالات انتخاب رئيس جديد للجمهورية بعد نضوج الحوار الحاد حيناً والصاخب أحياناً، بين كتلة تيار المستقبل بزعامة الرئيس سعد الحريري وحزب الله بقيادة امينه العام السيد حسن نصرلله في بيت الرئاسة الثانية في عين التينة.

أما الحوار الآخر، فلا يقل صعوبة عن الأول، بين التيار الوطني الحر بزعامة الرئيس العماد ميشال عون، وحزب القوات اللبنانية بقيادة الدكتور سمير جعجع.

صحيح، ان الحوار ما كان ليبدأ لولا الوساطة التي اضطلع بها الوزير السابق الشيخ وديع الخازن، على ما اتصف به من حكمة وبراعة الا ان جنرال الرابية اختار للتهيئة للحوار أحد أبرز أركان التيار، وأمين سره النائب ابراهيم كنعان رئيس لجنة المال النيابية، كما ان جنرال معراب اختار بدوره أحد أشهر نجومه هو الصحافي ملحم رياشي، وهو مشهود له بالذكاء من قبل وزير الداخلية السابق الياس المر. الا ان الصحيح ايضا، هو ان لا الرابية ولا معراب كان من الأولويات عندها جمع جنرال الرابية وحكيم معراب، بل تأسيس قاعدة تمهد للوقوف عليها، بصلابة بين الرجلين، انطلاقاً من اسقاط الدعاوى بين الفريقين، ليحل الوفاق مكان الفراق.

ويقال ان كنعان والرياشي يمهدان لحل معظم القضايا العالقة والراسخة بين الفريقين، ليصبح اللقاء المتوقع بين القطبين، لقاء هدفه انقاذ الجمهورية لا انقاذ من يجب أن يتولى رئاسة الجمهورية.

واللافت في الموضوع ان الرئيس سعد الحريري سبق وأبدى آراءه في الخلاف بين التيار والحزب وان الرجلين تطرقا الى الحوار الجاري بين التيار والحزب اي بين الرابية ومعراب حوار يستهدف العافية لا المرونة فقط.

وهذا الحوار انطوى على صفحات مشرقة بين الافرقاء، على أساس انه خطوة تمهيدية تمهد لخطوة اشمل بين اللبنانيين كافة.

وهذا ما يتوقع المراقبون انعكاسه على الاحداث المقبلة، وإن جاءت أحداث باريس لترسم حوله اكثر، من علامة استفهام.

اسمع يا جنرال

في مطلع العام ١٩٥٠، كانت العلائق مضطربة بين الحاكمين، بسبب عزم الشيخ بشارة الخوري على توطيد حكمه، بعد التجديد له في العام ١٩٤٩.

كان على الرئيس رياض الصلح أن يفي بوعده ويقدم استقالته، ليخلفه وزير المال الحاج حسين العويني، لكنه استمهل الشيخ بشارة حتى يعود من اجتماع اللجنة السياسية للجامعة العربية يوم العشرين من كانون الثاني ١٩٥١، وفي صحبته الامين العام للخارجية فؤاد عمون.

وأراد رياض الصلح ان يتصدى مع الشيخ بشارة لمسألتين خطيرتين في السياسة الخارجية، أولهما مشروع الدفاع المشترك الذي ترفع لواءه انكلترا، وثانيهما مسألة الصين الشيوعية بزعامة ماوتسي تونع. وظهرت في لبنان حركة يسارية ضد مشروع الدفاع المشترك بقيادة الامين العام للحزب الشيوعي نقولا شاوي والاقطاب الثلاثة: أنطوان ثابت، جورج حنا ومصطفى العريس.

وعلى هذا الخط اعلن عن وصول القائد العام للقوى النظامية البريطانية في الشرق الاوسط براين روبرتسون. ولم يشأ مجلس الوزراء أن يتخذ القرار منفرداً، بل طلب مشاركة رئيس اللجنة البرلمانية حميد فرنجيه ووزير الخارجية السابق هنري فرعون، وجرى اتخاذ قرار يرمي الى التأكيد بأن الجنرال روبرتسون، لن يسمح له بأن يفسد علاقات الودّ مع بريطانيا التي ساندت لبنان في معركة الاستقلال.

كان يوم الخامس من شباط ١٩٥١، عندما وصل الجنرال روبرتسون الى لبنان وزار القصر الجمهوري بعد زيارة لبنان، وهو يرغب في الاستماع الى رأي رئيس الجمهورية. ورد الشيخ بشارة بأن لبنان يميل بحكم مبادئه الدينية والفلسفية والاجتماعية الى معسكر الدول الغربية، وقد أظهر هذا الميل باقتراعه على المشروع الأميركي بوصف الصين انها معتدية في كوريا. ثم أردف: هذا من جهة الميل النظري، أما من جهة النتائج العملية لهذا الميل، فأنا مطلع تمام الاطلاع على ما جرى من أحاديث بين الانكليز والأستاذ فيليب تقلا وزير الخارجية، وقد فهمت ان الوزير أدرك ان بريطانيا كانت تعدّ خططاً للدفاع المشترك.

الجنرال روبرتسون: ان الخطط وضعت وأنا لا أريد أن أشغل قائد الجيش فؤاد شهاب، غير انني أريد أن أعرف مدى استعداد لبنان لاعطاء تسهيلات للجيوش الغربية في حال وقوع هجوم سوفياتي على تركيا.

وأورد الجنرال الانكليزي بين التسهيلات المطلوبة: فتح خطوط مرور للجيوش الحليفة، واستعمال بعض قواعد بحرية وجوية، عند وقوع الحرب بصورة جدّية.

الشيخ بشارة: ان هذه التسهيلات ممكن أداؤها اذا انتفت المخاوف التي تساور اللبنانيين…

الجنرال روبرتسون: مخاوف؟! مثل ماذا؟!

الشيخ بشارة: سجل عندك يا جنرال: هناك أولاً الخطر الاسرائيلي. فقد يخشى ان يشرك جيش اسرائيل بالدفاع عن الشرق، وحينئذ يستفيد الاسرائيليون من هذا الاشتراك ليدخلوا الأراضي العربية وهناك الطامة الكبرى.

الجنرال روبرتسون: سوف يطلب من اسرائيل تسهيلات مرور للجيوش الحليفة في أراضيها ولكنه لم يخطر على بال أحد ان يشترك الجيش الاسرائيلي بالدفاع عن الشرق في أراضي الدول العربية وبجانب جيوش تلك الدول.

الشيخ بشارة: عندك يا جنرال خطر تغيير الوضع السياسي في البلدان العربية. فإنه يخشى أيضا ان التسهيلات التي سوف تعطى قد تغيّر الوضع السياسي في الدول العربية. فلبنان لا يرغب في ذلك. وهو بسبب وضعه الخاص واتفاق جميع عناصره للمدافعة عن كيانه بشكله الحاضر، يطلب تأمينا على ذلك.

الجنرال روبرتسون: ان المستقبل البعيد، من الآن مثلا الى اثنتي عشرة سنة كذا، هو قيد الغيب، غير ان مثل هذه التسهيلات المرتقبة لا يغيّر شيئا في وضع الدول العربية.

الشيخ بشارة: وعندك يا جنرال الخطر على الاستقلال. فقد يخشى ان يستفيد بعض أصحاب المطامع من الدول الأجنبية من هذه التسهيلات المعطاة لظرف معيّن فيغيّر الوضع الاستقلالي في لبنان، خصوصا وان الماضي القريب شاهد على هذه المطامع، وعلى العراقيل التي وضعت في طرق الاستقلال، وعلى صعوبة جلاء الجيوش الأجنبية عن البلاد، بعد دخولها إياها.

الجنرال روبرتسون: ان ذلك غير ذي موضوع إذ ان الجيوش التي يخشى منها ليس بامكانها الاشتراك مع الحلفاء خارج ميادين أوروبا الغربية.

الشيخ بشارة: ان التقاليد والعاطفة ستؤدي حتماً الى طلب اشتراكها في الدفاع عن دول الشرق الأدنى، وان التطمين من هذه الجهة ضروري جداً.

عندئذ تدخّل الوزير البريطاني المفوض المستر شون وقال انه سيراجع حكومته بهذا الشأن ويعطى التطمين اللازم.

ورأى الشيخ بشارة ان يُجلى كل غموض والتباس، عن كل موقف قد يساء فهمه في المستقبل.

إلاّ أن الشيخ بشارة أكد ان لبنان يحافظ أولاً على سيادته واستقلاله.

كان الشيخ بشارة الخوري يريد ان يحسم موضوع تحييد لبنان عن مشروع الدفاع المشترك. ويتخوّف من عودة الفرنسيين الى لبنان، من نافذة هذا المشروع، فأثاره مع الوزير المفوّض بنكرتون ومثله المستر جونْس.

وأطرق الرجلان بعض الوقت، قبل أن يناور المستر جونس ويسأل بشارة الخوري:

– إذن هو اشتراك العسكر الفرنسي في هذه المعاهدة مبعث خوفكم..

قال الشيخ بشارة:

– هذا وشيء آخر اسمه الخوف على السيادة والاستقلال.

سأله جونس:

– واذا اقتصر الأمر على بعض الضباط الفرنسيين المراقبين؟

قال الشيخ بشارة:

– الأمر نفسه ينسحب على هؤلاء الضباط وهو السيادة والاستقلال. وأظنك يا مستر جونس تدرك تماما طبيعة الحساسية اللبنانية في موضوع العسكر الفرنسي بالنظر لماضي الانتداب الفرنسي في لبنان.

– ألم توقعوا اتفاقا مع فرنسا لحماية شواطئكم؟

الشيخ بشارة: ان هذا شيء لم يحصل ولن يحصل. وغاية ما في الأمر أننا أوفدنا بعثة من بعض العسكريين لتتلقن في فرنسا علوم الملاحة الحربية وفنونها لأنه لم يكن يوجد بين المرشحين من يجيد الانكليزية.

وحاول بنكرتون ان يطمئن الشيخ بشارة أكثر وأكثر في سبيل ان يجر قدمي لبنان الى اتفاقية الدفاع المشترك، فقال له:

– ان الحكومة الأميركية، وفقاً للرغبة التي أبداها فخامة رئيس الجمهورية، قبل سفرنا الى اسطمبول، مستعدة لارسال مذكرة الى الحكومة اللبنانية، عندما يطلب منها ذلك، تؤكد فيها عزمها على حماية لبنان من أي اعتداء. كذلك فإن الولايات المتحدة ستبذل المساعدة للبنان في ما هو عازم عليه من مشاريع عمرانية.

ولكن لا المستر جونس ولا المستر بنكرتون حصلا على أية اشارة من الشيخ بشارة بالموافقة على انتظام لبنان في اتفاقية الدفاع المشترك لأن ذلك يخرجه من صفة الحياد التي اختارها على غرار سويسرا، والتزم بالعمل العربي ضمن الجامعة العربية، والانفتاح على العالم، من خلال هيئة الأمم التي كان له إسهام في تأسيسها ضمن مؤتمر سان فرانسيسكو عام ١٩٤٥.

لكن السياسة الأميركية لم تيأس من الموقف اللبناني، على أساس ان نقطة الماء مع الوقت تنخر الحديد. وفي الرابع والعشرين من آذار أقبل على القصر الجمهوري في القنطاري موكب سيارات تابع للسفارة الأميركية تتقدمه سيارة المستر جورج ماك غي وكيل وزارة الخارجية الأميركية، والى جانبه الوزير الأميركي المفوض المستر بنكرتون.

كان الشيخ بشارة يعرف تماماً ماذا يريد المسؤول الأميركي من الزيارة، وكان الشيخ بشارة قد أفهم مجلس الوزراء الثلاثي الذي يضم الحاج حسين العويني وبولس فياض وادوار نون أن دخول جمل في ثقب إبرة – كما التعبير للسيد المسيح – أيسر من دخول لبنان ملكوت الدفاع المشترك. ومع ذلك فقد رحب الشيخ بشارة بالمستر ماك غي، وقال له: سمعاً.. بدون طاعة!

فقد أصغى اليه بكل اهتمام وهو يشكر لبنان على مواقفه عامة وموقفه خاصة حول وصم الصين الشيوعية كدولة معتدية في حرب كوريا – وهذا منبعه – الكلام ل ماك غي – السياسة الحكيمة التي تقود لبنان منذ بداية عهد الاستقلال.

ثم قال:

– وأجدها مناسبة يا فخامة الرئيس لاثني على شخصية الدكتور شارل مالك وزير لبنان المفوض في واشنطن كسياسي وفيلسوف ومحاضر لا يشق له غبار.

وصمت المستر ماك غي للحظات ثم تابع قائلا:

– والآن أحب ان أستمع الى ما عند فخامتكم من ملاحظات في سياسة الشرق العربي حتى أستفيد من معلوماتكم وخبرتكم في تلك الشؤون.

الشيخ بشارة: أنا أعرض عليكم الموقف من أساسه دون الدخول في التفاصيل والفروع، لأن ذلك يعني غيري.