كأن الابتزاز الذي يمارسه مسلّحو «داعش» و «جبهة النصرة» بحق الدولة اللبنانية وعناصرها الأمنية لا يكفي، ها هي صرخات أهالي هؤلاء العسكريين، المفجوعين والجالسين على الأرصفة بانتظار القتيل المقبل من أبنائهم، تدوّي عبر الشاشات «ما عنّا دولة»، وتطالب أهل الحكم في لبنان بأن يفعلوا شيئاً، أيَّ شيء، لإيقاف هذه المذبحة المفتوحة، التي لم تعد مذبحة للعسكريين وحدهم، بل صارت مذبحة للوطن وكرامته وما تبقى من معنى لسيادة دولته على أرضها.
كان الخاطفون يعرفون منذ البداية مع أي حكم في لبنان يتعاملون. كانوا يدركون أوراق القوة التي في أيديهم بالمقارنة مع أوراق الشلل التي بيد الدولة، لهذا نجحوا في تحويل هذه الدولة أسيرةً لمطالبهم، يأخذونها إلى حيث يريدون، ويمارسون عليها الضغوط بالشكل الذي يؤدي إلى النتائج التي يبغون. في دول أخرى تحصل فيها عمليات أسر وخطف، يعرف الخاطفون أن هناك ثمناً سيدفعونه، عاجلاً أم آجلاً، مقابل إجرامهم. وحتى عندما يتم التفاوض معهم تتفاوض الدول من موقع قوة لا يسمح بتنازلها عن كرامتها. أما دولة لبنان، فهي التي تتم مطالبتها اليوم بدفع الأثمان للخاطفين من دون أن تكون لديها أي قدرة على المبادرة أو على وقف هذا الابتزاز، بسبب تفككها وتناقض ولاءات المسؤولين فيها، وبسبب ما يظهر من عجزها عن اتخاذ قرار حاسم في هذه القضية، سواء لجهة الحسم العسكري ضد الخاطفين أو التجاوب مع مطالبهم. وهو ما منع الحكومة من استخدام ما بيدها من أوراق ضغط كان يمكن أن تجبر المسلحين على التفكير أكثر من مرة قبل أن يمعنوا في إجرامهم.
منذ البداية أدرك الخاطفون أن لبنان دولة بلا رأس، ما يعني أن قدرتهم على اللعب على التناقضات داخل الحكومة لجهة أي قرار حاسم ضدهم هي قدرة بلا حدود، وهو ما أظهرته الخلافات التي صارت معلنة بين الوزراء المكلفين معالجة هذه القضية، والتي أدت إلى انسحاب بعضهم من أي دور في حلها. يعرف الخاطفون من هو صاحب القرار الحقيقي في هذه الدولة المقطوعة الرأس، ومن القادر على قول الكلمة الفصل بشأن تلبية مطالبهم، إذا أراد. لهذا صار صعباً التجاوب مع أي قرار يتعلق بالعفو عمّن يمكن العفو عنهم من السجناء، في إطار المفاوضات الجارية أو اتخاذ قرار حاسم بالقيام بعملية عسكرية لإطلاق العسكريين الأسرى.
يدرك الخاطفون أيضاً أن الجهاز العسكري الذي يمكنه اتخاذ قرار الحسم، وهو قادر على ذلك، مغلول اليدين، تخضع قراراته هي أيضاً للمساومات السياسية، وهو ما أدى إلى انسحاب الجيش من معركة عرسال بعد تطويقه المسلحين هناك. وبسبب ذلك انتهى الأمر بتمكن هؤلاء من إيقاع العسكريين في الكمين وخطفهم بعد ذلك.
يبتز الخاطفون كذلك الجهاز القضائي، أحد أعمدة السيادة في أي دولة تقيم على أرضها سلطة القانون. ليس سراً مدى الاستنسابية التي تعاني منها قرارات معظم الجسم القضائي وأحكامه، هو الواقع تحت أهواء الطبقة السياسية ومصالحها. بنتيجة ذلك يستمر توقيف متهمين بارتكاب جرائم ومخالفات أمنية لسنوات طويلة، من دون أن يتم حسم مصيرهم، إما بإصدار الأحكام الواجبة بحق من تتم إدانتهم، أو بإطلاق من يستحق الإطلاق منهم، حتى بلغ الأمر حداً صارت معه مدة احتجاز البعض تفوق فترة الحكم الذي كان يمكن أن يصدر بحقهم. كل هذا فيما يتم غض الطرف عن مخالفات وجرائم أخرى، أو التساهل مع مرتكبيها، لمجرد انهم يقيمون في حراسة جهات لا تسمح الدولة لنفسها، أو لا يُسمح لها بالاقتراب منهم.
لم تكن هناك حاجة لاستباحة أرواح الجنود اللبنانيين وللمعاناة العلنية على الشاشات التي تحط من كرامة ومعنويات ذويهم لندرك أن الدولة غائبة في لبنان، حتى عندما يكون واجبها حماية عناصرها الأمنية. لكن الثمن الذي يدفعه لبنان اليوم بسبب هذا الغياب صار كبيراً، وربما صار مستحيلاً تعويضه بعدما بلغ الانهيار الوطني والأخلاقي والسياسي هذا الحد.