وهم البحث عن «حل سياسي» في جنيف يوازي حقيقة أن نكبة سوريا صارت خارج سياقات أي شكل تسووي أو أي حل مركّب يحمل في طياته شبهة بقاء شيء من أشياء السلطة الأسدية واقفاً على قدميه.
غير أن الأوهام من عدّة السياسة. وهذه لا تفعل سوى إخبار العامة بطريقة حداثية، أن الاستكانة المأزومة توصل إلى عدمية صافية. وهذه بدورها تقعّر الغايات والأهداف المطلوبة وتجعلها ضرباً من العبث الذي يليق عادة بسردية زبد البحر!.. وعليه، كان ولا يزال، لا بد من إنعاشات متفرقة (للجسد السوري) تُبقي حبل السرّة موصولاً وتؤكد وضعية الوسط بين الحياة والموت، قائمة بكامل أناقتها السريرية!
وذلك ما يعنيه وهم جنيف. والذي هو في كل حال، جزء من مدوّنة أوهام تتصل بالنكبة السورية في أصولها وفروعها. وفي قمة ذلك ورأسه وهم بشار الأسد بأنه لا يزال «رئيساً» لسوريا الراهنة! وأنه سيكمل المشوار في سوريا الآتية!
ومع أن دواعي المنطق في أبسط مراتبه تفرض فرضاً الاعتراف بأن الأسد غير بعيد عن الواقع، ويعرف يقيناً وأكثر من كل الناس بأنه قطع خط العودة في الطريق الذي سلكه منذ بداية بدايات الثورة، وبأن كل ممارساته وارتكاباته، من أصغرها إلى أحقرها، لا تنمّ إلاّ عن تلك القناعة الأخيرة والحاسمة، فإن أحداً لا يمكنه التغاضي عن حالة مرضية لا تزال متحكّمة بسلوكه «الآخر»، وتدل وفق البيان الطبي، على انفصام خطير في شخصيته، يرى تداعياته وتأثيراته كل العالم، ويدفع أثمانه كل السوريين.
بشار الأسد بهذا المعنى، هو أكثر واقعي موهوم: يعرف أنه انتهى ويتصرف على أساس أنه باق و»عائد»! ويعرف أن المدافعين عنه و»المتمسكين» به إنما يدافعون عن نفوذهم ويتمسكون بمصالحهم وأنهم في «اللحظة المناسبة» لن يترددوا في رميه إلى المكان الذي يليق به، ومع ذلك يتصرف وكأنهم حبل خلاصه الأخير والوحيد وأصحاب قدرات آتية من الموروث الديني ومعجزاته التي لا تقل عن إعادة إحياء الموتى!
في مدوّنة الأوهام هذه شيء إيراني، شبيه بالشيء الأسدي. فيما المفارقة أن الروس يتصرفون كالموهومين لكنهم الأكثر واقعية: يعرفون (وينصاعون) بأن دورهم في سوريا، كل دورهم من أساسه إلى متفرعاته، ما كان ممكناً لولا الضوء الأخضر الأميركي. ولا يمكن أن يستمر من دون ذلك الضوء. ولا يفوتون فرصة واحدة، مهما كانت تفصيلية لتأكيد تلك الحقيقة.. والشواهد كثيرة تبدأ من نكرانهم وجود «الجيش الحر» ثم بحثهم بعد ساعات عن «التحاور» معه! ولا تنتهي بالأمس مع تسليمهم بمشاركة «جيش الإسلام» و»أحرار الشام» في المفاوضات برغم كل ضجيجهم المعاكس!
.. الحقيقة الموازية والمواجهة للحل الموهوم في جنيف، هي أن الجميع ينتظر إدارة أميركية جديدة في «البيت الأبيض» لتبيان ما ستقرره في شأن سوريا! ولولا تداعيات وضرورات ولجاجة متطلبات «الحرب على الإرهاب» لكان ذلك الانتظار عاماً وتاماً! ولما كانت جنيف محطة من رمل لقطار من هواء ولحل لن يأتي، طالما أن شيئاً من أشياء الأسد موجود في سوريا!