احتدمت حدة الخلاف في بريطانيا٬ بين الراغبين في البقاء ضمن الاتحاد الأوروبي والمطالبين بالانفصال عنه٬ حتى أودت بحياة النائبة العمالية الشابة جو كوكس٬ التي استحقت عدة رصاصات٬ وفوقها طعنات بالسكين٬ ثمًنا لدفاعها عن حقوق اللاجئين والمستضعفين٬ والتضامن الأوروبي الذي لم يعد يروق للبعض.
دخلت بريطانيا الاتحاد عام 1973 بعد مكابدة٬ ومواجهة لاعتراضات الرئيس الفرنسي شارل ديغول. وكما أن القوة تجذب وتسحر٬ فإن الضعف والتشتت يثيران النفور والهلع. والرحمة على أيام كانت فيها الدول تبذل كل غاٍل ورخيص لتنخرط في هذا التجمع الأّخاذ٬ وصارت تهدد بالانسحاب منه إن لم يستجب لرغباتها٬ كما فعلت اليونان٬ فيما تراجعت سويسرا عن الطلب أصلاً٬ ورفضت الدنمارك التعامل باليورو٬ وتدير آيسلندا ظهرها لتجّمع تعتقد أنه يأكل خصوصيتها. ولم يبَق من أحد يناضل من أجل هذه العضوية٬ بصوت مرتفع٬ وببسالة المقاتل٬ سوى تركيا.
ويبدو هذا التجمع الضخم اليوم٬ ورطة لأصحابه٬ إن هم استمروا فيه٬ ومشكلة أكبر للدول التي تخرج منه. فقد وضعت قوانينه وآلياته٬ لعالم تغير في غفلة من أصحابه الذي رسموا خرائطه وحددوا مساره. فالقارة الأوروبية لم تعد تشبه تلك التيُولدت من رحمها فكرة الاتحاد في خمسينات القرن الماضي. على مدى نصف قرن ونيف٬ أفقرت الشعوب بعد ازدهار٬ وشاخت المجتمعات بعد أن شّح الشبان فيها٬ وبدت إداراتها واستراتيجياتها٬ وكأنها غير قادرة على نفض غبار القرن العشرين٬ وطرائقه في التفكير والتدبير. ومع هجوم المهاجرين طمًعا في الاستقرار من البحر والبر والجو٬ تكشف وهن أوروبا وهشاشتها٬ إذ إن كل الذين دخلوا القارة لا يتجاوز عددهم أولئك الذين
استوعبهم بلد صغير مثل لبنان. وبالتالي لم تكن الهجرة سوى الشعرة التي قصمت ظهر البعير.
محقون البريطانيون الذين يحلمون بالتخلص من عبء جيرانهم الآسر٬ فهم من بين أكثر أهل القارة حداثة وديناميكية اليوم٬ إن لجهة نظامهم الإداري اللدن٬ أو مناهجهم التعليمية الرائدة٬ أو ليبراليتهم الاقتصادية المتخففة من الأحلام الاشتراكية التي تبنتها بعض الدول الأوروبية٬ مثل فرنسا٬ مؤمنة بالعدالة والمساواة.
ظنت بريطانيا أنها ستجلب بفتح حدودها مع محيطها٬ خيرة الخبرات والأدمغة الذكية٬ فإذا بها مع الانهيارات الاقتصادية التي تزنرها٬ تصبح مشتهى العاطلين عن العمل٬ والراغبين في الزحف إليها٬ ولو اشتغلوا بغير مجالاتهم٬ وتخلوا عن توظيف مهاراتهم٬ ولا يخلو الأمر أن يمر بينهم إرهابيون ومتطرفون مخربون دون قدرة لها على لجمهم أو منعهم٬ وهم يحملون الجنسيات الأوروبية.
هذا غير أن العضوية وصلت تكلفتها٬ العام الماضي٬ إلى أكثر من 8 مليارات جنيه إسترليني٬ في وقت تعصر فيه الدول نفقاتها٬ وخسرت بريطانيا أكثر من 70 ألف فرصة عمل في مجال الصناعة النفطية وحدها. الإحساس بأن الانخراط في الاتحاد يحتاج٬ أمام كل منعطف صعب٬ إلى مزيد من التضحيات٬ أمر بات يرهق الدول الأعضاء. منها من لا تزال ترى البعيد٬ واسع الأفق٬ رحب الصدر٬ ومنها ما تفضل إغلاق الحدود وتسكير الأبواب٬ وتدبير أمورها بنفسها.
لكن الدول التي دخلت التجربة وانخرطت فيها٬ واستفادت من ثمراتها٬ لا تستطيع أن تخرج بالسهولة التي تتصورها. فإضافة إلى تحذيرات البنك الدولي٬ والخشية الأميركية على مستقبل الوحدة الأوروبية٬ فإن غالبية المستثمرين يرون في انسلاخ بريطانيا خسارة قد لا تعوض بسهولة٬ خصوًصا أنها بلد يقوم اقتصاده على تقديم الخدمات. وسواء جاءت نتيجة التصويت بـ«نعم» أو «لا»٬ لن نرى مفاعيلها قبل سنتين٬ إلا أن خوف رؤوس الأموال بدا جلًيا باللجوء إلى الذهب. وليس بيل غيتس سوى أحد الذين اختاروا بريطانيا٬ لكل ما لها من إيجابيات ليست لأي دولة أوروبية أخرى ليجعلها مركزه في القارة٬ ويستثمر فيها. ويرى الملياردير الأميركي أن «بريطانيا إذا قررت الانفصال٬ فإنها ستصبح مكاًنا أقل جاذبية لقطاع الأعمال والتجارة والاستثمار. ويصير موضوع جذب المواهب من القارة الأوروبية أكثر صعوبة٬ وهذه المواهب بالذات هي التي تخلق فرص عمل للبريطانيين».
يدرك الشبان الصغار أكثر من غيرهم٬ خطورة انفصالهم عن محيطهم٬ ويؤيدون بشكل كبير البقاء ضمن المنظومة التي سمحت لهم بحرية التنقل والتبادل والتثاقف٬ ولا يزال ثمة وقت قبل أن تظهر آثار صدمة مقتل جو كوكس في الشارع٬ التي لا ذنب لها سوى التسامح والدفاع عما آمنت به.
الديمقراطية هشة حتى في أكثر الدول قوة واعتداًدا٬ والوحدة تحتاج إلى فهم معنى التضحية على المدى القصير٬ من أجل أن تعم النعمة عدًدا أكبر من الناس٬ وهذا ليس مما يمكن أنُيشرح بسهولة للناخبين٬ الذين تحركهم المخاوف المتصاعدة٬ ويتم التلاعب بمشاعرهم بالضرب على وتر العصبيات المتوهجة.
لذلك لا يستغرب البعض أن يوصل استفتاء مصيري إلى عنف دموي٬ يبقي بريطانيا داخل الاتحاد٬ أو «يخرجها منه وإلى الأبد»٬ كما قال رئيس الوزراء الإيطالي ماتيو رينزي. ورغم كل التقديرات٬ والتحذيرات٬ فإن أحًدا لا يستطيع من الآن٬ توقع الآثار التي ستترتب على انسحاب بريطانيا٬ في حال حدث٬ إلا أنه قد يبدأ بهبوط الجنيه الإسترليني٬ وتخشى أميركا أن يشجع على تمرد المزيد من الأعضاء٬ على تجمع تصفه هي نفسها بالضعيف٬ وهو ما قد يزلزل حلف شمال الأطلسي.