IMLebanon

ضَـربةٌ على الكَماليّات

 

نَـفّذ التحالفُ الثلاثيُّ (أميركا وفرنسا وبريطانيا) هجومَه غيرَ المباغِت على سوريا قبلَ صدورِ تقريرِ لَجنةِ تَقصّي الحقائقِ التابعةِ لمنظمّةِ حَظرِ الأسلحةِ الكيمائيّةِ ومن دونِ تفويضٍ من مجلسِ الأمنِ الدوليّ. استَند التحالفُ إلى تحقيقاتِه الخاصّةِ وكَـلَّف ذاتَه.

وإذا كان هذا التصرّفُ يَـخرُج عن القوانينِ الدوليّةِ ويُبرِّرُ غدًا لأيِّ دولةٍ قويّةٍ أنْ تقومَ بالمِثل، فجريمةُ استعمالِ الكيمائيِّ تُشرِّعُ الهجومَ السريعَ لأنَّ انتظارَ نتائجِ التقريرِ وقرارِ مجلسِ الأمن، كان ليُـؤجّلَ الضربةَ إلى القرنِ الثاني والعشرين. وأصلاً باتت سوريا مَشاعًا لدولٍ وتنظيماتٍ عدّة: مِن تركيا إلى إيران إلى روسيا إلى الولاياتِ المتّحدةِ إلى «حزبِ الله» إلى «القاعدةِ» إلى «داعش»، ما عدا الداخلين والخارجين «ترانزيت».

كلُّ الأطرافِ المعنيّين بحربِ سوريا تَـمنّوا أنْ تكونَ الضربةُ لمصلحتِهم: تركيا تَـمَـنَّـتَها على النظامِ، الأكرادُ على القوّاتِ التركيّة، الإسرائيليّون على القوّاتِ الإيرانيّة و»حزبِ الله»، والخليجيّون أخيرًا تَـمنَّوها على الجميع. أما التحالفُ الثلاثيُّ، فلم يَـخْتَر أيَّ طرفٍ، اختار مادةً: الكيمياء. إنَّها غارةٌ أكاديميّة: الفيزياءُ ضِدَّ الكيمياء.

بعد هذه الضربةِ التقنيّةِ والأنيقة، التي ألغت الإنسحاب الاميركي من سوريا، تأكّدَ الرئيسُ الأسد، مرّةً أخرى، أنّه بمنأى عنِ السقوطِ في المرحلةِ الحاليّة على الأقلّ. فالضربةُ، وإنِ استهدَفَت جُغرافيًّا عُمقَ النظامِ (منطقةُ دمشق وحمص)، حَـيَّدت النظامَ واكتفَت بضربِ «كَماليّاتِه»: السلاحُ الكيميائيّ. يَـخشى الغربُ إسقاطَ «صَدّام حسين» سوريا وإضافةَ فراغٍ إلى فراغ.

لكنَّ الضربةَ طالَت هيْبةَ روسيا التي تَربَّعت على عرشِ سوريا وتوعَّدت بالردِّ ولم تَفِ، وأَظهَرت أنَّ التحالفَ الثلاثيَّ يحتفظ بحقِّ التدخّلِ برّيًا وجوّيًا وبحريًّا في سوريا برغم الوجودِ العسكريِّ الروسيّ والإيرانيّ الواسِع. إنّها أوّلُ نكسةٍ للرئيس بوتين إثرَ انتخابِه لولايةٍ جديدةٍ وبعدَ ارتفاعِ حِدّةِ المواجهةِ بين موسكو من جهةٍ وواشنطن وأوروبا من جهةٍ أخرى. واكتمَلَت النكسةُ في سوريا بعُزلةٍ روسيا في مجلس الأمن الدوليّ. لكنْ مَن يدري؟ قد يَقبِضُ بوتين ثمنَ تمريرِ الضربةِ الثلاثيّةِ على سوريا في مكانٍ آخَر. بلادُ التسوياتِ بين الكبارِ واسعةٌ.

لم يُعطِ التحالفُ الثلاثيُّ لعمليّتِه العسكريّةِ بُعدًا سياسيًّا، بل «أخلاقيًّا»، ما يُرجِّحُ أنّها مَوضِعيّةٌ ما لَـم يَعقُـبْها ردُّ فعلٍ روسيٍّ أو إيرانيٍّ مباشَرٍ أو بالوكالة. غيرَ أنَّ أيَّ ردِّ فعلٍ روسيٍّ سيؤدّي إلى مواجَهةٍ أميركيّةٍ ـ روسيّةٍ لا يَتمنّاها الطرفان، وأيَّ ردِّ فعلٍ إيرانيٍّ سيؤدّي إلى مواجَهةٍ إسرائيليّةٍـ إيرانيّةٍ متوقَّعة. وأساسًا، إن الهدفَ الرئيسَ للغربِ وإسرائيل في سوريا اليومَ هو الوجودُ الإيرانيُّ وليس النظامَ السوريَّ، فالأخيرُ باتَ حالةً محليّةً سوريّة، بينما الأوّلُ مشكلةٌ إقليميّةٌ ودوليّة.

إنَّ بروزَ محورٍ دوليٍّ عسكريٍّ أميركيٍّ ـــ فرنسيٍّ ـــ بريطانيّ يُشكِّل بحدِّ ذاتِه تطوّرًا استراتيجيًّا في مسارِ صراعاتِ الشرقِ الأوسط والنزاعاتِ الدوليّةِ الأُخرى. ابتداءً منَ اليومِ نَشأت قوّةٌ ضاربةٌ ومتجانِسةٌ ومتفاهمةٌ تُعوِّضُ عن انقسامِ حلفِ شمالِ الأطلسي وعن تردّدِ التحالفِ الدوليِّ ضِدَّ الارهاب. ومع ذلك، سَمحَت حكومةُ لبنان أنْ تُدينَ العمليّةَ الثلاثيّةَ فيما لَـم يَجِفّ بَعدُ حِبرُ الـــ 11 مليار دولارٍ في «مؤتمر سيدر».

الجديرُ بالمحورِ الثلاثيِّ أنْ يَتحوّلَ طاقةً لحلِّ الأزمات لا أن يكونَ قوّةَ تدخلٍّ سريعٍ من دونِ تأثيرٍ سياسيّ. فما جَرى في سوريا، على أهميّتِه الرمزيّةِ، لم يُعدِّل موازينَ القِوى العسكريّة، ولم يُـحدِث بالتالي تغييرًا ـــ بَعدُ ـــ في المشهدِ السياسيّ. إن غيابَ البعدِ الاستراتيجيِّ أبقى الضربةَ على سوريا في إطارٍ عِقابيّ، لا بل عقّدَ المفاوضاتِ الجاريةَ بين الأطرافِ السوريّين إن في أَستانا وسوتشي أو في جنيف. ما حدثَ يُذكِّر بعمليةِ «ثعلَبِ الصحراء» (Desert Fox) التي أَمرَ بها الرئيسُ بيل كلينتون سنةَ 1998 ضِدَّ نظامِ صدّام حسين: قصفٌ قويٌّ دامَ سبعةَ أيامٍ وبَقيَ صدّام بعدَه خمسَ سنوات.

فقدانُ البعدِ السياسيِّ للضربةِ لا يكشِفُ غيابَ استراتيجيّةٍ غربيّةٍ متكامِلةٍ تجاهَ الأزمةِ السوريّة فقط، بل عدمَ وجودِ بديلٍ جِدّيٍ لنظامِ الأسد حاليًّا. فالمرحلةُ التي كانت القِوى الديموقراطيّةُ المعارِضةُ بديلاً وَلَّت بعدَ أشهرٍ من بَدءِ الأحداثِ في سوريا سنةَ 2011. أما اليوم، فلا يوجدُ بديلٌ ديموقراطيٌّ أو ديكتاتوريٌّ، معتدِلٌ أو متطرّفٌ، إسلاميٌّ أو عَلمانيٌّ قادرًا على حكمِ سوريا أو جُزءٍ منها قبلَ حصولِ تسويةٍ دستوريّةٍ جامعة.

صحيحٌ أنَّ استعمالَ السلاحِ الكيميائيِّ يَستحقُّ الردَّ السريعَ، لكنَّ الردَّ للردِّ هو عملٌ استعراضيٌّ لم يُعِدْ نازحًا سوريًّا واحِدًا. وما أدلُّ على استعراضيّةِ الضربةِ وعُقمِها سوى أمرين: الأول، تنافسُ كلٍّ من ترامب وماكرون وماي على التباهي النرجَسيِّ بتفوُّقِ طائراتِـهم وصواريخِهم وكأنَّ الانتصارَ في الحربِ هو بعودةِ الطائراتِ سالمةً وبدقّةِ إصابةِ الأهدافِ وليس بوضعِ حدٍّ للحربِ وإقامةِ السلام. والآخرُ أنَّ كلَّ الضرباتِ السابقةِ ضِدَّ النظامِ السوريِّ، منذ سنةِ 2013، بسببِ استخدامِه السلاحِ الكيميائيّ، لم تَردَعْه عن تكرارِ استعمالِه قبلَ أيامٍ سنةَ 2018. فالنظامُ السوريُّ مستعدٌّ أنْ يَدفعَ ثمنَ استعادةِ دوما والغُوطة وضمانِ أمنِ دمشق قصفًا أميركيًّا فرنسيًّا بريطانيَّا محدودًا. إنّه ثمنٌ رخيص.

ما بدا مؤخرًا هو أنَّ العالمَ يعتبرُ سقوطَ الضحايا بالأسلحةِ التقليديّةِ مسموحًا وشرعيًّا، بينما سقوطُها بالأسلحةِ الكيميائيّةِ ممنوعٌ وحَرام. هذه قِمّةُ الخبث.

الأزمةُ السوريّةُ تستدعي الخروجَ من منطقِ الضرباتِ العِقابيّةِ إلى منطقِ توفيرِ الظروفِ العسكريّةِ والسياسيّةِ لولادةِ حلولٍ عادلة. وحبّذا لو يُوظِّفُ التحالفُ الثلاثيُّ ضربتَه الأخيرةَ في خلقِ ديناميّةٍ تفاوضيّةٍ جديدةٍ في مؤتمرِ جنيف قبلَ أنْ تَتدهورَ الأوضاعُ في سوريا وتتعدّى الحدود.