IMLebanon

زمن التيّار الأزرق

.. «أرجوك اسمح لي بالدخول، كتبتُ قصيدة للرئيس أريد أن أتلوها عليه»، قال شاعر ثمانيني من منطقة المزرعة. لم يكَدْ رجل الأمن يعتذر بسبب عدم قدرته على رفع الحاجز الحديدي قبل إعطائه «تعليمات» بذلك، حتى انتزع الرجل الثمانيني قصيدته من جيب سترته وبدأ تلاوة البيت تلوَ الآخر، ظنّاً منه أنها الوسيلة الوحيدة لإيصال الرسالة. ثوانٍ قليلة كانت كافية لحجب الصوت.. والصورة: وفد كبير من شباب عكار اخترق الجموع مدجّجاً بأعلام التيّار وحناجرَ اشتاقت للهتاف «سعد.. سعد.. سعد».

كثيرون لم ينتظروا لحظة اللقاء ولا الإجراءات المتعاقبة التي التزم بها حراس المكان تسهيلاً لدخول المحتشدين إلى حرم «بيت الوسط». أرادوه سباق «ماراثون» في ما بينهم، يسابق الواحد الآخر، يفاوضه أو يستعين بمسؤول من هنا أو آخر من هناك، من أجل الوصول إلى حاجز حديدي هو الأول بين حواجز متتالية. «أنا قادم من آخر الدني من شبعا»، قال أحدهم، آملاً تجاوز الحاجز: «بدّي شوفو ولو من بعيد». «أنا مصوّر»، قال الثاني، حتى إذا علا صراخ ثالث «بدنا نشوفو بدنا نشوفو»، هاجت الجموع كموج في عباب البحر. رجال الأمن «استهْيَبُوا» الموقف. حاولوا بدماثتهم إقناع المحتشدين من دون جدوى، فاستعان أحدهم بهاتفه لينجح بانتزاع قرار من مسؤول الأمن بفتح الحاجز.

انتاب المهرولين شعور بالنصر. تجاوزوا الطريق المحاذية للمدرسة «الأهلية» مفعمين بأملٍ سرعان

ما افتقدوه مع وصولهم إلى البوابات الحديدية لبيت الوسط، حيث كانت تنتظرهم «معارك» أكبر.

فاضت الباحة الخارجية بالرؤوس. تشابكت الأقدام، وتزاحمت الآمال في الانتقال إلى الباحة الداخلية. لم يكن ينقص سوى حلقة للدبكة أرادها شبان من طرابلس مع رفاق من عرسال مدوّية. فيما اغتنم «البيارتة» الفرصة من أجل «غزوة» في اتجاه البوابة الحديدية: «أريد أن أراه.. أنا من الطريق الجديدة»، قال الأول. أما الثاني فخَبَط قدمه أرضاً: «لن أتحرك من هنا أريد الدخول». فيما صرخت صبيّة من الوراء: «أعدك، أريد لقطة سيلفي معه وأخرج على الفور».

هرج ومرج حَوَّل بعض الشبّان إلى مسعفين ينقلون المُغمى عليهم بفعل نقص «الأوكسجين». سادت حالٌ من الإحباط.. خَرَقها بعد دقائق تسلّل عدد من الشبّان وراء أحد نوّاب الكتلة من البوابة. وكرّت السبحة. كلّما وصل نائب أو وزير تسلّلت وراءه أفواج من الشبّان والصبايا حتى ضاقت الباحة الداخلية بمَن فيها.

وبدأت رحلة الانتظار.

بعضهم توقّع ظهوره من البوابة الرئيسية. وبعضهم الثاني انتظره من البوابة الجانبية، فيما ظّن بعضهم الثالث أنه سيحضر من الخارج باعتبار أن الجموع زرعت الطرقات المؤدّية إلى البيت قبل عودته من مراسم استقبال ذكرى الاستقلال في القصر الجمهوري.

انتظروه من الباب فجاءهم من الشباك.. مكتّف اليدين.. مبتسماً.. من دون سابق إنذار، فعَلَتْ الأصوات والأيدي: «سعد.. سعد.. سعد». مشهدية ذكّرته بسنين خَلَت. حَبَس دموعه وانتقل إلى الشرفة الموازية فخذلته من جديد عندما أطلّت عمّته بهيّة. حَبَس دموعه مرّة ثانية ونزل إلى الباحة فاتحاً يديه كما لو أنه يحلّق في الهواء.

«تقبرني هالطلّة»، قالت إحداهنّ. «إنت الزعيم ابن الزعيم، ما بدنا غيرك زعيم، بلاك ما بنشعر بالأمان»، قال آخر، فيما أجهش العشرات بالبكاء.

يوم الوفاء الذي أراده جمهور الرئيس سعد الحريري نَقله إلى فضاء آخر وزمن آخر. زمن الساحات، زمن التيّار الأزرق، زمن الأوفياء.