IMLebanon

استقِلْ سيد أردوغان كما فعَلَ ديغول عام 1969

الانتخابات التركية أمس الأول ليست انتخابات واحدة وإنما اثنتان دفعة واحدة. الأولى هي الاستفتاء على رئاسة رجب طيب أردوغان ومشروعه لنظام سياسي رئاسي جديد والثانية هي انتخابات تشريعية بين الأحزاب في النظام البرلماني القائم.

في الانتخابات “الأولى” خسر رجب طيّب أردوغان خسارة كاملة. حصل شخصه ونهجه على أقلية 41-42 بالماية مقابل 51-52 ضده.

وفي الانتخابات “الثانية” جاء ترتيب “حزب العدالة والتنمية” أولاً بين الأحزاب وإن كان من دون أغلبية مطلقة.

بهذا المعنى الديموقراطي الأساسي فاز الحزب وخسر رئيسه. فوز الحزب محدود لا شك ويعبّر أيضا عن بداية تراجع انتخابي عميق قياسا بصعود بادئ عام 2002. أما خسارة رجب طيِّب أردوغان فواضحة كاملة تشبه خسارة الرئيس الفرنسي شارل ديغول في 27 أيلول عام 1969 في الاستفتاء الذي دعا إليه لتعديل أساسي في النظام السياسي (صلاحيات المناطق ومجلس الشيوخ) وخسر فيه بنسبة 52 بالماية حصل عليها معارضوه وحوالى 48 بالماية لمؤيِّديه.

إذن حتى الأرقام تتشابه. لكن الأهم في المقارنة هي الظروف.

كان ديغول قائدا للأمة الفرنسية وليس رئيسها فقط. رجب طيِّب أردوغان يعامل نفسه على أنه قائد الأمة التركية ولذلك أعطى نفسه حق تغيير النظام السياسي. في الاستفتاء الذي تلا ربيع باريس الطلابي عام 1968 وجاء جوهريا بسببه، قالت الأمة الفرنسية لا لقائدها فاحترم نفسه وإرادة الناخبين واستقال. أيضا كان التحالف اليميني الذي يقوده ديغول قادرا على البقاء في السلطة ولكن من دون ديغول. الآن يمكن أن يحصل الموقف نفسه في تركيا لو تصرّف أردوغان بشجاعة ذاتية تعترف بأن حقبة قيادته قد انتهت بقرار أغلبية الشعب التركي وعليه بالتالي أن يخلي المجال داخل حزبه وداخل الحياة السياسية لبدء مرحلة جديدة من دونه كما فعل ديغول بالضبط في أيار عام 1969.

خسر رجب طيب أردوغان الكثير في السنوات القليلة الماضية ولم يعترف بذلك.

خسر أولاً النخب التركية الليبرالية والعلمانية التي أيدته رغم إسلاميته في 2002 و2007. كانت تلك رسالة تظاهرات “غيزي بارك” في مثل هذه الأيام عام 2013 في اسطنبول والمدن الكبيرة. ولهذا بدأ يخسر “النوع” التركي الطليعي الحداثي لصالح شعبوية أكثر ريفية وأناضولية وليس مدينيةً بشكلٍ عام. يحصل هذا النمط من الخسارات النوعية بالنسبة للعديد من قادة الدول ولا يعترفون بها بسبب عدم قوتها في صناديق الاقتراع في البداية… إلى أن يظهر أن النخب الفنية والثقافية والفكرية والاقتصادية تعلن الخسارة قبل حدوثها. هي الإرهاص الذي يؤشُّر على تراجع طليعية القوة السياسية وتكون الإنذار الأول.

حذّرته أوروبا مراراً من مغبة السياسة التنكيلية بالصحافة فلم يرتدع. وحذره إسلاميون متنورون من “حركة حزمت” التي يقودها الداعية الحداثي التربوي فتح الله غولن فلم يرتدع.

وخسر أردوغان فرصة تمثيل الروح التعددية لتركيا الحديثة عندما أصبحت سياسته فئويةً بل طائفية فخسر تباعا العلويين والأكراد الذين، أي الأكراد، منحوه طويلاً فرصة  بناء الجمهورية الثانية باعتبارها جمهورية الانتقال من الهوية القومية الواحدة والوحيدة إلى الهويات المتعددة ضمن الدولة – الأمة في تركيا. حتى أن الصوت الكردي هو الذي أوصله بهذه القوة إلى رئاسة الجمهورية. لكنه لم يجرؤ على الإقدام رغم بعض الخطوات التي ميّزته عن الطبقة التقليدية في التعامل مع المسألة الكردية. وفي الشأن العلوي بدأ يستخدم لغةً مذهبية مستفزة وصريحة وفشل فشلاً ذريعا في إحداث النقلة التي يمكن أن تكون على مستوى العالم الإسلامي وهي اعتراف الفقه السني التركي العريق بالأقلية العلوية. إنها نقلة إذا لم تأتِ من الفقه الحنفي بخبراته التعددية العثمانية فلن تأتي من أي مذهب سني وحتى شيعي آخر. وأظن أن الحداثة التركية باتت مهيّأةً لمثل هذا التجديد الهام.

أما في السياسة الخارجية فحدِّث ولا حرج في السنوات الأخيرة. دخل أردوغان كطرف أساسي في الحرب الأهلية التدميرية السورية ثم العراقية وخسر مصر لأجل حكم إخواني أفلس بسرعة وفي ليبيا كما في سوريا والعراق تعامل مع أكثر المخلوقات الأصولية وحشيّةً.

كتبنا مرارا في السابق وفي ذروة “انتصارات” أردوغان الشعبوية أن أفول أردوغان بدأ، وأنه آن الأوان لكي تبدأ تركيا بتجاوزه. فتركيا الحديثة هي التي أنتجت أردوغان وليس هو الذي أنتجها كما اعتقد بسذاجة بعض العرب وبعض نخبهم. ولذلك فإن تركيا، التي هي حصيلة جهود أجيال آخرها جيل أردوغان الذي حقّق إنجازاتٍ في الاقتصاد، ستتجاوز أردوغان ولاحقا “حزب العدالة والتنمية”. وهذا منطق التاريخ في الدول ذات المستقبل.

اسْتَقِلْ سيد أردوغان. ستحفظ ذكراك عندها بما يتجاوز أخطاءك ودعْ حزبك يحاول أن يبقى في المقدمة على قيد  الحياة السياسية كما فعل حزب شارل ديغول الذي أنتج الرئيس البديل جورج بومبيدو ثم أنتجت “العائلة السياسية” اليمينية فاليري جيسكار ديستان حتى حصل التغيير الكبير الذي جاء بالاشتراكيين إلى الرئاسة عام 1981.

لكن تبقى ملاحظة وهي أن الأكراد وهم “يُسقِطون” أردوغان يفتحون المجال لتغيير جدي في النظام القومي الذي أسّسه مصطفى كمال أتاتورك ويثبتون، عبر تركيا، أن حسن الطالع السياسي بات سمةً رئيسية جديدة للأكراد في كل المنطقة.

تركيا، بسبب الديموقراطية التي جاءت بأردوغان وعليها أن تحيله على التقاعد، هي نفسها القادرة على منع المصير الانفصالي لأكراد العراق وسوريا.

إنه سحر الديموقراطية.