Site icon IMLebanon

كتاب وإدارة

 

كلّ ما يدور في العالم غريب. لكنّ ما ورد في الكتاب الفضائحي الذي وضعه الصحافي مايكل وولف تحت عنوان «نار وغضب» وتحدّث فيه عن البيت الأبيض في عهد دونالد ترامب يتفوّق على كلّ أنواع الغرابة. يعود ذلك إلى أن الكتاب يكشف كم أن البيت الأبيض في حال يُرثى لها وكم أن هموم الموجودين فيه منصبّة على السخرية من بعضهم البعض والاستهزاء بالآخر، خصوصاً من ترامب نفسه وأفراد عائلته.

 

هل يستطيع الرئيس الأميركي إكمال ولايته؟ تكفي نظرة إلى ما ورد في الكتاب للتأكّد من أن موضوع اضطراره إلى ترك البيت الأبيض في مرحلة ما أكثر من واردة. لا شكّ أن المادة الرقم 25 من الدستور الأميركي وضعت لحالات شبيهة بحال دونالد ترامب الذي لم يتردّد في وصف نفسه بـ«العبقري» و«المستقرّ ذهنياً» وذلك ردّاً على ما ورد في الكتاب.

 

ستمرّ بعد أيام قليلة سنة كاملة على تولي ترامب مهماته كرئيس للولايات المتحدة. من خلال قراءة سريعة لبعض الفصول، يتبيّن أنّ هناك رئيساً أميركياً غير طبيعي وأنّ كل ما يدور في البيت الأبيض منذ سنة هو تناحر وتنافس بين المحيطين بالرئيس بلغ حدّ إطلاق موظفي الرئاسة اسمي عديّ وقصيّ، وهما ابنا صدّام حسين، على ابني ترامب وهما دونالد جونيور وايريك.

 

إذا كانت نسبة عشرة في المئة مما ود في الكتاب صحيحة، فإننا أمام مشكلة كبيرة في البلد الذي يُعتبر القوّة العظمى الوحيدة في العالم. استناداً إلى ما ورد في الكتاب، ليس هناك أيّ مسؤول أميركي يحترم الرئيس. ليس هناك من لا يشكّك بقدراته العقلية. هناك إجماع على أن دونالد هو طفل في حاجة دائمة إلى من يلبي طلباته، إضافة إلى رغبته في أن يكون محطّ أنظار المحيطين به وموضع اهتمامهم بشكل دائم.

 

من بين ما ورد في الكتاب الذي يقول وولف إنّه نتيجة حوارات ومقابلات خلال ثمانية عشر شهراً مع المحيطين بترامب، قبل وصوله إلى البيت الأبيض وبعد انتخابه رئيساً، أن الرجل «لا يسمع ولا يقرأ». إضافة إلى ذلك، أن الرئيس الأميركي يفضّل التعامل مع النساء إذ يجدهن «أكثر إخلاصاً وأكثر جدارة بالثقة من الرجال». يفعل ذلك على الرغم من تصرفات له تشير إلى احتقاره النساء.

 

مَن يتصفّح الكتاب الذي يحتاج إلى قراءة دقيقة في العمق، ينتابه الخوف على العالم. نحن أمام رئيس أميركي غير جدّي لم يقتنع بتوجيه ضربة إلى مطار خان شيخون بعد استخدام بشّار الأسد السلاح الكيميائي مجدداً في حربه على شعبه، إلّا بعد الإتيان له بصور لأطفال هناك رغوة على أفواههم. في النهاية وجّه ترامب الضربة، في نيسان (أبريل) من العام الماضي، بعدما تأكّد من أنّها لن تغيّر شيئاً في موازين القوى على الأرض، ولن تضايق الروس، وذلك من أجل إظهار أنّه مختلف عن سلفه باراك أوباما.

 

اعتذر ستيف بانون، الذي كان اليد اليمنى لترامب، عن ما رود عن لسانه بالنسبة إلى نجل ترامب في الكتاب. ذهب بانون الذي اتهم نجل ترامب بـ«الخيانة» إلى حد التراجع عن كل ما قاله عن الرئيس الأميركي وقدراته العقلية وعن علاقة نجله بموسكو. لكنّ ذلك لا يقلّل من قيمة «نار وغضب» الذي يجعل كلّ من يتعاطى مع الرئيس الأميركي وإدارته يتساءل هل يمكن الاتكال على أميركا في هذه الأيّام؟

 

الواقع، أنّ ما يشفع بالولايات المتّحدة هو وجود إدارتين أميركيتين وليس إدارة واحدة، على الرغم من مظاهر التضامن لكبار المسؤولين مع ترامب بعد نزول كتاب مايكل وولف إلى الأسواق وإقبال المواطنين الأميركيين عليه. هذه الإدارة الموازية تضمّ رجالاً مثل نائب الرئيس مايك بنس ووزير الخارجية ركس تيلرسون ووزير الدفاع جيمس ماتيس ومستشار الأمن القومي هربرت ماكماستر. الثابت أن هناك مستوى تعاطٍ آخر، لدى الإدارة الأخرى، مع ما يدور في العالم وذلك على الرغم من يمينية نائب الرئيس. فبنس ارتأى في نهاية المطاف تأجيل جولته في الشرق الأوسط إلى العشرين من الشهر الجاري كي لا تأتي مباشرة بعد إعلان ترامب أن القدس عاصمة لإسرائيل وأن إدارته ستنقل السفارة الأميركية إلى المدينة. تسبّب ترامب، بالخطوة العشوائية التي أقدم عليها، بحرج لكلّ حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة باستثناء إسرائيل وأظهر نفسه في الوقت ذاته بأنّه من طينة الرؤساء الذين لا يقدرون عواقب القرارات التي يتخذونها. جاء تأجيل جولة نائب الرئيس ستة أسابيع ليوحي بأنّه لا تزال في واشنطن دوائر تعتمد سياسة التروّي والتعقّل بدل العمل على إحراج الحلفاء الذين يتصدّون للسياسة العدوانية لإيران.

 

لعلّ السؤال الذي سيطرح نفسه بحدّة في الأيّام القليلة المقبلة هل من سياسة أميركية تجاه إيران غير سياسة الكلام الكبير الذي يليه الجلوس في موقع المتفرّج على ما تقوم به الميليشيات المذهبية التابعة لـ«الحرس الثوري» في المنطقة.

 

لم تظهر الولايات المتحدة في عهد ترامب أي رغبة في الإقدام على خطوة ما لمواجهة المشروع التوسّعي الإيراني الذي يقوم على زعزعة المجتمعات العربية وتفتيت الدول القائمة.

 

تبقى سوريا أفضل مثال على الاستسلام الأميركي أمام روسيا وإيران. يبقى العراق أفضل دليل على أن ليس في الإمكان الاتكال على الولايات المتحدة، خصوصاً أن تجربة «الحشد الشعبي»، أي الميليشيات المذهبية التي تسيّرها إيران، سيتحول شيئاً فشيئاً إلى نموذج لما يفترض أن تكون عليه دول المنطقة. هذا يعني أن هذه الميليشيات المذهبية أهمّ من الجيش الوطني وأنّها صاحبة القرار الأوّل والأخير في البلد. من سيمنع زعماء الميليشيات المذهبية المسلّحة في العراق من الترشّح في الانتخابات المقبلة؟

 

يصعب في ضوء ما كشفه كتاب «النار والغضب» أن تستعيد إدارة ترامب اعتبارها من دون تغيير في العمق. يمكن أن يكون لهذا التغيير طابع داخلي، أي أن يسلّم ترامب نفسه بأنه لم يعد قادراً على ممارسة مسؤولياته الرئاسية، وهذا أمر مستبعد.. وإمّا أن يثبت في خارج أميركا انّه مختلف بالفعل، وليس بالكلام فقط، عن باراك أوباما، الذي اعتبر إيران نموذجاً يمكن الاقتداء به.

 

المرجّح أن يكتفي الرئيس الأميركي بممارسة سياسة العناد وأن يكتفي بما قاله عن نفسه وعن «عبقريته». هذه كارثة على أميركا وعلى العالم وعلى حلفاء أميركا على وجه التحديد. لكنّ الثابت أن إدارة ترامب بعد «نار وغضب» لن تكون، كما كانت، قبل نزول الكتاب إلى السوق وكشفه ما كشفه.