لم يعد مهماً ما يحمله الوسيط الأميركي هوكشتاين من مقترحات بشأن ملف ترسيم الحدود البحرية بقدر ما يهم كيف ستتعامل الأطراف المفاوضة الفعلية، أي تلك الممسكة بالقرار، ووفق أية أولويات. هل تغلّب المصلحة الإقتصادية اللبنانية على باقي المصالح بما فيها مصالح الدول الإقليمية التي دخلت على خط هذا الملف بأجنداتها المختلفة والمتناقضة؟ صحيح أن بعض المؤشرات الإيجابية لاحت في الأفق في الفترة الأخيرة توحي بإمكانية تسوية بشأن ملفّ الحدود البحرية العالقة بين لبنان وإسرائيل. ولكن الصحيح أيضاً أن التطورات الدولية لا سيما المواجهة الدائرة بين الغرب وروسيا على الساحة الأوكرانية، أو الصراع المحتدم مع إيران وانعكاسه على المفاوضات النووية، تضع ملف الغاز في شرق المتوسط على خط توتر عالٍ.
أما الحلول التقنية المتداولة بشأن الترسيم فلم تعد سراً وهي تقوم إمّا على تقاسم الآبار أو تقاسم العائدات الماليّة بعد استخراج وتصدير ما في قعرها. هي مقاربة براغماتيكية من وحي منهج فن المفاوضات الحديث، والذي يرتكز على المصالح المشتركة، عوضاً عن التمترس خلف المواقف المبدئيّة المتصلبة. المهم في الأمر أن لبنان اليوم أمام فرصة حقيقية إن نضجت ظروفها الإقليمية. فملفّ إستخراج الغاز وتصديره يُشكل ليس فقط رافعة للخروج من الأزمة الإقتصادية غير المسبوقة، إنما أيضاً يفتح طريقاً دبلوماسياً للخروج من العزلتَيْن الدوليّة والعربيّة.
أهميّة ملفّ الغاز في هذه اللحظة التاريخية يكمن في أنه مرتبط بالتحولات الجيوإقتصادية الهائلة التي تهز العالم، لا سيما في قطاع الطاقة نتيجة الحرب الدائرة في أوكرنيا. لذلك غاز المتوسط، والذي يشكل مصدراً إضافياً بديلاً عن الغاز الروسي، بات محور اهتمام الدول الأوروبية خاصة أنها على أبواب الشتاء، كل التوقعات تقول إنه سيكون الشتاء الأقسى عليها منذ عقود والذي بدأت تظهر تداعياته على مستوى سعر صرف اليورو مقابل الدولار والذي بلغ هذا الأسبوع أدنى مستوياته. والأهم أن ملف غاز شرق المتوسط أصبح جزءاً من استراتجية متكاملة تقودها واشنطن من أجل ضبط التضخم وتداعياته ليس فقط على المستوى الإستراتجي إنما أيضاً على المستوى الداخلي خاصة وأن أميركا على ابواب انتخابات نصفية، يشكل العامل الإقتصادي معيارها الأول.
تركيا من جهتها، القوة الإقليمية القابعة شمال شرق المتوسط، تتحرك بكل الإتجاهات لحجز مقعد على مائدة صانعي القرار بشأن ملف الغاز. وسوق الطاقة في صلب أولوياتها. منذ انهيار حائط برلين، إكتشفت لنفسها دوراً بديلاً عن الدرع العسكرية التي ارادها لها الحلف الأطلسي لصد الخطر السوفياتي، وهو أن تكون ممرّ انابيب الطاقة الذي يربط آبار وسط آسيا بالسوق الأوروبية… لم توفر جهداً في هذا السبيل، من مناورات عسكرية في مواجهة الفرنسيين واليونانيين، حتى التقارب الأخير مع إسرائيل.
أما الدولة العبرية فهي تسعى إلى اقتناص الفرصة الإقتصادية المتاحة اليوم نتيجة التهاب أسعار الغاز. تصدير غازها إلى الداخل الأوروبي أصبح ممكناً لا بل مطلوباً، بعدما كان متعذراً في السابق نتيجة عدم جدواه الإقتصادية، وعدم قدرته على منافسة الغاز الروسي. لذلك تسعى إلى نسج خارطة تحالفات لهذا الغرض، ليس آخرها الإتفاق الموقع مع مصر لإيصال الغاز إلى أوروبا.
ويأتي في هذا الإطار إنسحاب شركة “نوفاتيك” الروسية من “كونسورتيوم” الشركات التي تتوّلى أعمال التنقيب واستخراج النفط في البلوكَين 4 و9، مع شركتي توتال الفرنسية وآيني الإيطالية ليثير كمّاً من التساؤلات. لا شك أن موسكو لا تنظر أبداً بعين الرضى الى كل تلك المحاولات للإلتفاف على غازها، وقد أضحى السلاح الأول الذي تمسك به في المنازلة مع الغرب. فهل من خطوة تصعيدية تتبع هذا الإنسحاب؟
المهم بالنسبة للبلد الصغير أن يعي أين تكمن مصالحه، وأن يجد طريقه السليم في ظل هذه الأمواج العاتية. اللحظة مؤاتية إقتصادياً، أما إقليمياً فمحفوفة بالمخاطر. المطلوب قبطان ماهر متجرد، وقد يكون هذا أصعب ما في الأمر.