لا شيء يوحي بأنّ الجهود الجبّارة التي تقودها الولايات المتحدة لخفض التوتّر بين إسرائيل والحزب، قابلة لاستيلاد حلول طويلة الأمد، أو كافية للتعامل مع متطلّبات الأمن «ما بعد 7 أكتوبر».
في العقل الإسرائيلي، تنتمي أفكار مستشار البيت الأبيض آموس هوكستين، إلى زمن سابق على حرب غزة. معظم ما يُطرح، يتمحور حول تجريب المجرَّب، لا سيما تطبيق القرار 1701، الذي أمعن الحزب طوال 17 عاماً في تبديد أهدافه، وأبرزها تفريغ جنوب الليطاني من الوجود العسكري للحزب. كما ثابر الحزب على تهميش الضامن لتطبيق القرار أي قوات اليونيفيل المعزّزة، وحوّلها مع مرور الوقت إلى شاهد زور على الأرض. ليس أدلّ على ذلك، من إطلاق المحكمة العسكرية، في عزّ حرب غزة، سراح المدعوّ محمد عيّاد، المتّهم بجريمة قتل الجندي الإيرلندي «شون روني» (23 سنة)، أحد أفراد الكتيبة الإيرلندية العاملة في جنوب لبنان ضمن قوات «اليونيفيل».
ما يضعف جهود هوكستين أكثر أنّها محكومة بهدف طارئ هو منع تمدّد الحرب من غزة نحو لبنان، من دون أن تمتلك أيّ تصوّر حقيقي ينهي استمرار التعايش بين الدولة والدويلة في لبنان أو بين الميليشيا وإسرائيل، في انتظار الحرب المقبلة.
لماذا مدّد الحزب لقائد الجيش؟
المقترحات الأميركية تعد بانسحاب قوات الحزب بعيداً عن الحدود الشمالية، وتسليم المنطقة بالكامل للجيش اللبناني. وما انخراط الحزب في لعبة التمديد لقائد الجيش، خلافاً لتوجّهات حليفه العوني، إلا رسالة في سياق «دعم» المؤسّسة العسكرية وتحصين سمعتها كضامن موجود وقويّ بوسعه تنفيذ هذه المهمّة. استجابة الحزب السريعة بحدّ ذاتها ولّادة شكوك، وتشير إلى أنّ المطروح عليه ليس بالجدّية التي تقلقه.
يراهن الحزب على أنّ التحقّق من انسحاب قواته إلى شمال نهر الليطاني ينطوي على مجموعة من التحدّيات المعقّدة والدقيقة. من ذا الذي سيحدّد هويّات عناصر الحزب ويفصلهم عن «المدنيين» في ظلّ الاندماج العميق للحزب في النسيج الاجتماعي والسياسي لبيئته؟ تتطلّب مثل هذه المهمة أساليب مراقبة متطوّرة مثل صور الأقمار الصناعية، ومراقبة الطائرات بدون طيّار، وعمليات التفتيش على الأرض، بالإضافة إلى ضامن ميداني موثوق غير قوات اليونيفيل، وقدرة على التعاون المثمر مع المجتمعات المحلّية وأجهزة الاستخبارات. ولو افترضنا أنّ كلّ ذلك تحقّق، فستظلّ هذه الجهود قاصرة عن التمييز الحقيقي بين المدنيين والمسلّحين.
هامش المناورة السياسيّ الكبير
علاوة على ذلك، فإنّ الديناميكيات السياسية في لبنان، حيث يتمتّع الحزب بنفوذ كبير، تضيف تعقيداً آخر لطبقات التعقيدات التي تنطوي عليها عملية التحقّق من انسحاب قواته. فالجهود الدولية لفرض واقع جديد جنوب لبنان، ليست مسألة مراقبة وحسب، بل تتطلّب أيضاً التعامل مع مشهد سياسي حسّاس في لبنان، تلعب فيه الجهود الدبلوماسية والضغوط الدولية دوراً رئيسياً، وتتيح للحزب هوامش عريضة للمناورة والرفض والتعديل، بما يفرغ المبادرات هذه من مضامينها كما حصل في السابق.
كما تعد مقترحات هوكستين بمعالجة النزاعات الحدودية بين لبنان وإسرائيل، وتسرف في وعودها وصولاً إلى حلّ ملفَّي مزارع شبعا وتلال كفرشوبا. طبعاً تعمل المقترحات الأميركية وفق قاعدة «سدّ الذرائع» على الحزب، متجاهلةً، لأسباب عملية، دوره الحقيقي وعقيدته وتموضعه ضمن المشروع الاستراتيجي الإيراني. في المقابل فإنّ إسرائيل أوّلاً، ليست في وارد توسيع المداولات الدبلوماسية لتشمل سوريا من بوّابة البحث في مصير مزارع شبعا، وتركّز بدل ذلك على حلول عملية تسمح لها بإعادة سكّان البلدات الشمالية وضمان حرمان الحزب من إمكانية تكرار عملية السابع من أكتوبر.
تفريغ الجنوب من السكّان
في غياب حلول سياسية عملية لواقع الحزب في جنوب لبنان، وفي ظلّ استعصاء لجوء إسرائيل إلى تكرار نموذج غزة في لبنان، ما هي التوقّعات في الأشهر الثلاثة المقبلة؟
الأرجح، في هذا السياق، وحسب مصادر أميركية، أن تستنسخ إسرائيل ضدّ الحزب في لبنان، استراتيجيتها المعتمَدة في سوريا ضدّ الميليشيات المدعومة من إيران. يشمل هذا النهج عناصر استراتيجية عدّة، بينها تنفيذ غارات جوّية متكرّرة تستهدف تعطيل البنية التحتية العسكرية للحزب، مثل مستودعات الأسلحة والشبكات اللوجستية وخطوط الإمداد. بالإضافة إلى ذلك، ستكثّف إسرائيل تكتيكات الحرب السيبرانية المتطوّرة لتعطيل شبكات الاتصال والقيادة والتحكّم التابعة للحزب. وقد تصل إلى استهداف البنية التحتية الحيويّة للبنان إذا اعتُبرت ضرورية من الناحية الاستراتيجية. ومن غير المستبعد أن تلجأ إسرائيل إلى تفعيل أنظمة مراقبة متقدّمة على الحدود ونشر قوات الاستجابة السريعة، وصولاً إلى إجراء عمليات برّية محدودة الأهداف ضمن شريط حدودي بعمق 10 كلم، تسعى إسرائيل لتدميره تماماً وتفريغه من السكان.
تضيف المصادر أنّ العمليات السرّية ستلعب دوراً مهمّاً، حيث تقوم وكالات الاستخبارات مثل الموساد بأنشطة سرّية لجمع المعلومات الاستخبارية واستهداف الشخصيات الرئيسية في الحزب أو الشخصيات الإيرانية في لبنان، بالتوازي مع زيادة الضغوط الدولية لعزل الحزب والدعوة إلى فرض عقوبات أكثر صرامة.
إلى ذلك ستوسّع إسرائيل من توظيف الحرب النفسية لتقويض مصداقية الحزب وشرعيّته في لبنان والمنطقة. فما تقوم به إسرائيل الآن عبر الضربات الجارية، سمح لها بإظهار الهوّة العملاقة الفاصلة بين خطابات الحزب حول تدمير إسرائيل وتحرير فلسطين وبين قدراته الفعلية ومستوى الانضباط الذي يمارسه في ظلّ أعنف حرب يتعرّض لها الفلسطينيون منذ عام 1948.
حرب متقطّعة ودائمة؟
إنّ مثل هذه الاستراتيجية التي تتضمّن عمليات موضعية، وحرباً إلكترونية، وضغطاً سياسياً، على النقيض من حرب مفتوحة أو حملة جوّية واسعة النطاق، هي السيناريو الأكثر احتمالاً. من شأن ذلك أن يسمح بمعالجة أكثر دقّة لتهديدات محدّدة ويساعد في الحفاظ على الدعم الدولي لجهود إسرائيل، خاصة في ظلّ تأطير مواجهتها مع الحزب كحرب دفاعية أو استباقية ضدّ جهود بدأها الحزب في الثامن من أكتوبر.
مع ذلك، فإنّ هذه الاستراتيجية حبلى بمخاطر انزلاق التصعيد نحو حرب تقليدية تهدّد الاستقرار الإقليمي ومصالح الدول على نطاق أوسع.
لا يبدو أنّ ثمّة مفرّاً من مواجهة لبنان لحرب جديدة مع إسرائيل. شكل الحرب ومداها، هو موضع النقاش، لا أصل الحرب نفسها.