توقف الوسط السياسي عند تسريب نص الرسالة التي بعثت بها رئاسة الجمهورية في 28 كانون الثاني الماضي إلى رئيس مجلس الأمن للرد على «الادعاءات الإسرائيلية، بشأن دورة التراخيص الأخيرة التي أطلقتها الحكومة اللبنانية، لمنح ترخيص للاستكشاف في عرض البحر، والادعاء بأنها تقع في أماكن بحرية اسرائيلية».
فالرسالة تهدد بأن «يحتفظ لبنان بكامل حقوقه، في رفع أية مطالب لاحقة ومراجعة حدود منطقته الاقتصادية الخالصة، كما تنص المادة الثالثة من المرسوم رقم 6433 تاريخ 1 تشرين الاول 2011، إذا فشلت المفاوضات غير المباشرة في تحقيق التسوية التفاوضية». وفسّر بعض من تم تسريب نص الرسالة إليهم ذلك بأن الرئيس ميشال عون يتجه إلى العودة لتبني الخط البحري 29 للحدود البحرية، بعد أن كان امتنع عن توقيع مرسوم تعديل الخريطة اللبنانية المرسلة إلى الأمم المتحدة في العام 2011 والتي تتبنى الخط 23 ، والذي على أساسه نشأ النزاع مع إسرائيل على مساحة الـ 860 كلم مربعاً، التي فاوض رئيس البرلمان نبيه بري بإصرار على عدم التفريط بكوب ماء واحد منها، بهدف تكريسها لمصلحة لبنان كاملة، طوال السنوات الماضية. ولذلك نشأ خلاف بين أركان الحكم في حينها حول «اختراع» الفريق الرئاسي ومعه الوفد العسكري-التقني الذي شارك في جلسات التفاوض غير المباشر التي جرت في الناقورة أواخر العام 2020 ومطلع العام 2021 ، للخط 29 ، الذي تبين أن المطالبة بأن يكون أساسا لحقوق لبنان، برفع السقف، يزيد 1430 كلم مربعاً عن المطلب اللبناني الأساسي. فالرئيس بري تخوف من أن تؤخر هذه المناورة الحصول على الـ860 كلم مربع التي كان هو قطع شوطاً مع الأميركيين في التسليم بالجزء الأكبر منها. ولذلك تمسك بـ»اتفاق الإطار» الذي أعلنه في أكتوبر 2020.
تبين لاحقاً أن رفع السقف هذا تم بطلب مباشر من الرئيس عون في تعليماته للوفد العسكري- التقني اللبناني، محتفظاً لنفسه بحق التراجع عنه في العملية التفاوضية. وبالفعل جمّد عون مرسوم تعديل المرسوم 6433 وأبلغ في حينها وكيل وزارة الخارجية الأميركية ديفيد هيل خلال زيارته لبنان في 15 نيسان 2021، بأنه لن يوقع على مرسوم تعديل خط الحدود المرسل إلى الأمم المتحدة العام 2011، رغم توقيعه من قبل رئيس الحكومة آنذاك حسان دياب ووزير الأشغال ميشال نجار… فانفرجت أسارير هيل معتبراً ذلك خطوة إيجابية تسمح باستئناف الجانب الأميركي وساطته للتفاوض مع إسرائيل. فواشنطن كانت أبلغت لبنان بعد مطالبة الوفد اللبناني إلى مفاوضات الناقورة باعتماد الخط 29، أن الإصرار المستجد على هذا الخط، يعني أن لا مفاوضات ونقطة على السطر.
من الملاحظات التي لفتت نظر المطلعين على تفاصيل المفاوضات السابقة أن الرسالة الجديدة التي بعثت بها رئاسة الجمهورية تم صوغها في دوائر القصر، وتستند إلى رسالة بعث بها لبنان بتاريخ 27 كانون الأول،2021 أي قبل شهر ويوم واحد من الرسالة الأخيرة، التي تكرر المطلب نفسه، أي أن تمتنع إسرائيل عن «أي نشاط في المناطق المتنازع عليها». والمقصود بذلك كان الاعتراض على تلزيم شركة «إنرجين» اليونانية التي حصلت على عقد مع إسرائيل للتنقيب والحفر في حقل «كاريش» لشركة «هاليبورتون» الأميركية. فما الذي طرأ خلال شهر واحد، حتى يبعث لبنان برسالة جديدة فيها تهديد مبطن بالعودة إلى الخط 29 الذي كان من اختراع الفريق الرئاسي والتراجع عن المضي به كان منه لاحقاً؟
الملاحظة الثانية هي أن الرسالة تأتي قبل أيام من عودة الوسيط الأميركي آيموس هوكشتاين إلى لبنان، حاملاً ما وُصف بـ»أفكار معقولة» تكرس حق لبنان بمساحة الـ 860 كيلومتراً مربعاً، وتعالج مشكلة تداخل حقل «قانا» للغاز الواقع في البلوك الرقم 9، الذي يشمل دورة التراخيص التي أعلن عنها لبنان، من أجل تلزيمه للشركات التي تتقدم للمزايدة على التزام الاستكشاف والحفر فيه. فحقل قانا يقع السواد الأعظم منه ضمن مساحة الـ 860 كلم مربعاً التي يعتبرها لبنان ملكه، وجزء صغير منه يقع في المساحة التي يفترض أنها ملكية إسرائيل (ما بعد الخط 23 ). إلا أن لبنان يصر على الحصول على كافة مخزونه لمصلحته. فلماذا تعود الرئاسة اللبنانية إلى التلويح بالعودة إلى المطالبة بالخط 29 قبيل الاطلاع على المخرج الذي سيقترحه هوكسشتاين؟ كما أن وزير الخارجية عبدالله بو حبيب سبق أن صرح أكثر من مرة بأن الرؤساء الثلاثة متفقون على المطالبة بالـ860 كلم مربعاً كما تبلغ هوكشتاين.
دفع ذلك مراجع معنية إلى التساؤل عما إذا كان وراء الرسالة الأخيرة للرئاسة «قطبة مخفية» خصوصاً أن تسريب خبر الرسالة في بيروت كشف بعض الخفايا من وراء الرسالة، ودفع وزراء إلى سؤال رئيس الحكومة نجيب ميقاتي عن صحتها فاكتفى بإبلاغهم أن «هناك رسالة»، لا أكثر. أي من دون الإفصاح عن أي تفاصيل، ومن دون الإشارة إذا كانت الرسالة من الحكومة أو من الرئاسة.
كما شجع بعض الغموض أوساطاً على التساؤل عما إذا كان التفاوض على الحدود البحرية دخل مجدداً في بازار التعقيدات الإقليمية. فهل أن الفريق الرئاسي يعود إلى وضع شروط هدفها تعقيد المفاوضات، بالتنسيق مع «حزب الله» وبطلب من الأخير، رداً على الضغوط الدولية العربية التي تطرح مسألة سلاحه وتدخلاته الإقليمية والتي تصاعدت في الآونة الأخيرة، أم أن عون يريد العودة مجدداً إلى منطق المقايضة بين شروط يمكنه التراجع عنها مقابل ضمانات برفع العقوبات عن صهره جبران باسيل، كما سبق أن فعل من دون تجاوب أميركي معه؟