اعتدنا على القول والكتابة في السنوات الأخيرة، أن “سايكس بيكو” ينهار. ربما الأدق القول إننا ندخل بعد “سايكس بيكو” الأول في “سايكس بيكو” الثاني. من الدول إلى الشرائط.
“مسكين” العميل أنطوان لحد – وقبله طبعاً “الكشّاف” سعد حداد – فقد تبيّن – ومن وراءه- أنّهُ هاوٍ وصغير في لعبة الأشرطة الحدوديّة التي تصنع الشرق الأوسط الجديد حول ومع إسرائيل.
من سيناء إلى الجولان مروراً بلبنان أين لا يوجد شريط حدودي اليوم “يحرس” إسرائيل عمليّاً أو تحتمي هي وراءه وآخرها الشريط الذي باتت الصحافة الإسرائيليّة تؤكِّد وجوده علنا وشبه يوميٍّ وهو شريط “جبهة النصرة” المحاذي للجولان المحتل؟ ماذا عن الأشرطة المخضرمة والأشرطة العريقة ناهيك عن الجديدة التي هي الانعكاس الأكثر إثارة لصورة الشرق الأوسط الجديد وإسرائيل في القلب من هذه الصورة دولة مستقرّة قويّة وسط دول مفكّكة أو ضعيفة. الدولة التي كان العرب يسمّونها “مصطَنعة” فإذا هي اليوم، في “الليفانت” الدولة الوحيدة المتماسكة.
سأعود قليلاً وسريعاً إلى شريط سيناء: فبعد اتضاح شريط “النصرة” في الجولان هل لا زالت مستَبعدَةً فكرةُ أن تكون إسرائيل مساهِمةً بأشكال مختلفة مع قوى في غزة في الوضع الراهن الخطير في سيناء حيث لم يكتمل الشريط ولكنه وصل حداً خطيراً ومكلفاً للدولة المصرية عبر العمليات التي تقوم بها التنظيمات الأصولية المسلحة وهي عمليات، حسب ملاحظة بعض الزملاء الصحافيين المصريين، أصبحت دقيقة ومعقدة عسكريا ضد الجيش والقوى الأمنية المصرية بخلاف “بدائية” التفجيرات في الداخل المصري أي في المدن؟ وماذا عن الوضع الجنوبي اللبناني الذي جعلَتْه الحرب الأهلية السنية الشيعية العربية شريطا سلميّا دائماً بعد عام 2011 بسبب تحويل هذه الحرب الأهلية لـ”حزب الله” إلى قوة قتالية “شمالية” في سوريا بعدما “كان” فقط قوة قتالية “جنوبيّة” في لبنان.
ماذا أبعد وأبعد: “الأشرطة الحدوديّة” اليمنيّة والعراقيّة كأنما معظم العالم العربي بات أشرطةً لا دولاً، أو، لنكون أدق، كأنما هي دولٌ تقاتل لكي لا تصبح مجرّد أشرطة حدودية وهذا ما يُسجّل إيجاباً للدولة الأردنية التي تحاول التماسك في زمن الانهيار ووسط العاصفة وتحت ضغط الأدوار الصعبة جداً المطلوبة منها لا سيما الآن بعد الصدمة الهائلة (للأردنيّين وللعالم) التي ولّدَتْها العملية الوحشية التي أعلن عنها مجرمو “داعش” بإحراق الطيار الأردني معاذ الكساسبة.
اعتدنا على القول والكتابة في السنوات الأخيرة، وأنا واحدٌ من هؤلاء، أن “سايكس بيكو” ينهار. ربما الأدق القول إننا ندخل بعد “سايكس بيكو” الأول في “سايكس بيكو” الثاني. من الدول والدويلات إلى الشرائط الحدودية. إذن نجح سايكس بيكو الأول في نقلنا إلى سايكس بيكو الثاني. لذلك الأصح أيضا أن تُسمّى منطقتنا سايكس بيكو بدل الشرق الأوسط ونصبح نحن جميعاً ليس شرق أوسطيين وإنما نحمل تسمية “سايكسْ بيكويّين” بما فينا الشعب الإسرائيلي. مع العلم أن مصطلح “الشرق الأوسط” وُلِد فقط في القاموس الجيوبوليتيكي المعاصر قبل سنواتٍ قليلة من ولادة “اتفاق سايكس بيكو” أو ربما قبل ذلك بقليل في الفترة نفسها التي كان فيها الصبي مارك سايكس في رحلته الأولى إلى المنطقة في سن الحادية عشرة يرافق والده السير تاتون المهتم جدا بهندسة الكنائس ووالدته الليدي جيسيكا المكثرة من شرب الكحول في جولة بين مصر و بلاد الشام (1890) وتقيم السيدةُ الحسناءُ والدتُه علاقة عاطفية مع الدليل الذي كان يرافق الرحلة حسب ما يذكر جايمس بار في كتابه المرجعي عن الصراع الفرنسي البريطاني في تلك الحقبة وعنوانه: “خط في الرمل”. لا بد من الإشارة في هذا السياق أنه ليس ثابتا من هو الأول الذي أطلق مصطلح “الشرق الأوسط”: جنرال أميركي في واشنطن أو جنرال بريطاني في لندن في أوائل القرن العشرين؟
نحن مجتمعات سابقة حتماً على “سايكس بيكو” ولكنّنا شعوب “سايكس بيكوية” في الشرق الأوسط لأن خارطة سايكسْ بيكو الأول لم تجعلْنا دولاً فحسب بل شعوباً أيضا وإلا لماذا أبناء الموصل العراقيّون ليسوا سوريّين وأبناء دير الزور السوريّون ليسوا عراقيّين وأبناء طرابلس اللبنانيّون ليسوا سوريين وأبناء جبل عامل اللبنانيّون ليسوا شرق أردنيين لو تبنّت بريطانيا وفرنسا مصائر مختلفة لهذه المدن ولو، كما يقول بعض الوثائق، تبنّت الدولتان العظميان يومها اقتراح إلحاق جبل عامل بالإمارة الهاشمية موصولاً بها من خط درعا – الجولان – جبل الشيخ؟
إذن الذي لا يحب من النخب العربية تسميَتنا بـ”الشرق أوسطيّين” ربما استساغ أكثر في هذه المرحلة من تحوّل معظم منطقتنا إلى “شرائط حدوديّة” أن نُسمّى بـ”السايكسْ بيكويّين”.
أريد وبتصميم وتأكيد قويّيْن أن أستثني مصر من هذا التوصيف السايكس بيكوي مع أنه يمكن توسيع سايكس بيكو الثاني ليشمل حتى اليمن.
لماذا استثناء مصر رغم أنها تواجه عدوا أصوليا غامضا وخطيرا يتصرّف مع سيناء وكأنها شريطه الحدودي الآتي؟
أولا لأن حدود مصر ارتسمت طويلا قبل سايكس بيكو ولم تُرسَم بخط القلم الشهير على الورق؟
ثانيا لأن تماسك المجتمع والدولة المصريّين تماسكٌ حقيقيٌّ أو هو ذو ثقافة تماسك رغم حدة الانقسامات. وهذا يعني أن المعركة التي تخوضها الدولة المصرية يمكن أن تتحوّل في المستقبل إلى رصيد سياسي وثقافي وحتى عسكري لصالح استعادة وحدة بلدان المشرق وتحديدا سوريا والعراق أو حمايتها كلبنان أو تعزيزها كالأردن.
في مصر المعركة الأنجح الآن بين كل معارك مواجهة الأشرطة الحدودية العربية وسط الصراع الإقليمي الذي لا طرف عربيّا يملك قوّةَ أطرافه الأخرى.