دعاة المواجهة العسكرية في عرسال وجرودها مع الجماعات الإرهابية والتكفيرية التي تحتجز العسكريين اللبنانيين وتختطف مدينة عرسال، لديهم الكثير من المبررات الوجيهة الإنسانية والعسكرية والسياسية، بما في ذلك ما يُفترض أنه صيانة لهيبة الدولة والجيش وعدم المغامرة بحياة المختطفين، وأكثر من ذلك طبعاً فشل مسار التفاوض حتى الآن، والتحديات والاستفزازات اليومية التي تزيد من إلحاح حل هذه العقدة.
إلا أن الحذرين والمتحفظين على الخيار العسكري وصعوباته حتى لو تضافرت له قوة الجيش ودعم «حزب الله» وضمنياً القوات السورية لديهم كذلك ما يكفي من الحسابات الميدانية وكلفة المواجهة والتداعيات المحتملة.
طبعاً لسنا الآن في معرض استرجاع الأسباب التي تجعل من أي مشكلة أساسية أو طارئة تفتح السؤال عن هشاشة الدولة وضعف الولاء لها ووضعها دائماً في الصفوف الخلفية والتجاوز عليها من القوى السياسية الطائفية والمجتمع الأهلي.
ما هو راهن ومقلق أن نسمع كل بيانات التأييد للجيش ودعمه في معركته مع الإرهاب، وهو بهذه الحدود إعلان صادق، لكنه يتعثر عندما تضغط المصالح الشعبية والسياسية وتحصل تداعيات ليست تحت السيطرة. المسألة، خلافاً لما يستند إليه البعض، من أن في غلبة طرف على طرف عسكرياً ما يكبح الفوضى. هذه نظرية خبرناها في الحرب الأهلية وكانت لا تستقر على توازن معين ونحن الآن في ظروف أصعب وأكثر تعقيداً ولسنا بحاجة إلى دليل على غياب أي ضابط داخلي أو خارجي ولا يُعتدّ أبداً بالشائع عن رغبة المجتمع الدولي في الحفاظ على استقرار لبنان أو على الأقل التدخّل الفعال لمنع انهياره.
صحيح أننا في موقع حرج أمام تحديات وظروف تجاوزت الكثير من المواقف أو السلوكيات التي كان على اللبنانيين أن يتعاملوا بها من قبل، وكان لها أن لا تقودنا إلى هذا الوضع الصعب.
المشكلة الأكبر أننا لا نعرف بالضبط إلى أين تتجه المنطقة من حولنا وما الذي ترسمه الدول الكبرى والدول الإقليمية لنا وكيف ستدير الحرب المزعومة على الإرهاب خارج أي تعاون جدي بين الفاعلين على الأرض، ولا سيما دول المنطقة ولا تطرح حلولاً سياسية وظيفتها الانتقال من العمل العسكري لتقريب الحلول السياسية. وأكثر من ذلك بتنا نستشعر مخاوف حقيقية من إدامة الفوضى وتعميمها وصولاً إلى وضع اليد على المنطقة بوصفها «كرنتينا» أو أرض وباء وتحتاج إلى أكثر من الانتداب والوصاية والاستعمار. بل إن استشراء الفوضى وانتشارها واتساعها إلى الشمال الإفريقي ووسط آسيا ينبئ بأن «مشروع مكافحة الإرهاب» هو نوع من حرب أفيون أو حراثة عميقة لمكونات المنطقة وتعميق عناصر التفكك فيها، والأولوية هذه المرة ليست لمصالح إسرائيل وأمنها بل لتأمين مصالح النظام الرأسمالي العالمي الذي يواجه أزمات من بين معالجاتها النهب المباشر للموارد وتجارة السلاح وتفعيل الحروب. ما نسمّيه أزمة أميركا والغرب في معركة الاحتفاظ بصدارة العالم وقيادته تجري ترجمتها في بلادنا سعياً ليس فقط لتوسيع سوق السلاح واستهلاكه، وليس فقط القبض على الموارد بل وكذلك «بالمالثوسية» الإعمارية، حيث الهدم للإعمار وتضييق الخناق على التنمية الزراعية التي مصدرها هذا الشرق لإبقائه خارج سياق الاكتفاء الذاتي، والمستورد الأكبر للتكنولوجيا، وفوق ذلك كله هدم مكتسباته الحداثية وإعادته إلى عالم ظلامي فكري وثقافي وروحي لكي لا يعرف طريقه إلى التقدم والقوة. أمام هذا المناخ لا أحد يستطيع أن يقدم وصفات جاهزة ولا حلولاً سحرية لمحاصرة النار وإخمادها، لكنه بواقعية يستطيع أن يطلب المستطاع من سلطة سياسية لبنانية متضامنة فعلاً على الوجه السلبي وفكرة التعطيل والمماحكة والمناكفة لمصالح معظمها لا توازي حجم الخسائر اللبنانية التي تطاول كل اللبنانيين. وهذه مزيج من عقم الرؤى ومن الفشل المتراكم ومن الممارسة المستخفّة بالمخاطر الناجمة عن تأجيل التصدي لأبسط المهام والمشكلات من أجل استثمار سياسي رخيص.
هذه لحظة لإعادة طرح القضايا كما تطرح نفسها اليوم لا كما كانت مطروحة من قبل، فهل هناك من يبادر إلى تحريك بركة الحوار الراكدة خارج رهانات تثبت كل يوم فشلها؟ اتفقوا وقرّروا ما تشاؤون.