أهم ما يُميِّز الخطاب الإسرائيلي إزاء مفاوضات ترسيم الحدود البحرية هو التزام المستوى الرسمي الصمت حول طرحه للتسوية مع لبنان، في ظل استمرار المنظومة الأمنية في التسريب الإعلامي لأجواء تفاؤلية ولملامح صيغة اتفاق تدرك أنها تتعارض مع مطالب لبنان. ووفقًا لآخر التقارير، «سيتم ترسيم الحدود البحرية، بحيث تبنى منصّتا غاز، إحداهما في لبنان والأخرى في إسرائيل»، مع الإشارة إلى أن «جزءًا من حقل الغاز اللبناني سيكون موجودًا داخل مياه إسرائيل التي سيتم تعويضها ماليًا نتيجة لذلك».
بالتأكيد، الغموض الرسمي ليس سببه عدم تبلور موقف. ولكنه خلاصة قرارات القيادتين السياسية والأمنية في كيان العدو، بعد تقدير للوضع حول المخاطر والفرص والخيارات والرهانات، انتهى إلى ضبط الأداء العلني، وهو أمر ستتّضح خلفياته كلها عندما ينقل المبعوث الأميركي عاموس هوكشتين الموقف الإسرائيلي الى لبنان.
أما أداء وسائل الإعلام المضبوط فيعود الى حقيقة أن الإعلاميين الإسرائيليين هم صهاينة قبل أن يكونوا مهنيين. وفي القضايا التي تواجه فيها إسرائيل تحديات تتصل بأمنها القومي، يتحول هؤلاء الى جنود في المعركة، وتتغلّب اعتبارات الأمن القومي على هامش حرية المعلومات وحق الجمهور (الإسرائيلي) بالمعرفة. ولا يتعارض هذا المفهوم مع وجود هامش واسع نسبيًّا من حرية الإعلام، لكنه يضيق ويتسع بحسب الظروف والقضايا ورؤية المؤسسة الأمنية الإسرائيلية.
لذلك، يفرض هذا المفهوم التعامل بحذر مع كثير من هذه التسريبات، خصوصًا أن العدو يروِّج لمسألتين متعارضتين: رفع مستوى التفاؤل بالتوازي مع الترويج لصيغة اتفاق يتعارض مع الموقف اللبناني الرسمي. ويصبح هذا الحذر أكثر إلحاحًا باقتران هذا الأداء مع تأجيل متعمّد يتكامل في خلفياته وأهدافه مع سياسة الغموض والتسريب المدروس.
بغضّ النظر عمّا سيؤول إليه الوضع المفتوح على عدة سيناريوات، يعمد العدو الى محاولة رمي كرة المسؤولية على الطرف اللبناني، بشقّيه الرسمي والمقاوم. ويمهَّد لذلك بأجواء تفاؤلية عن استعداد إسرائيلي للتسوية، والإيحاء كما لو أن الأمور تتجه حكماً نحو اتفاق. لكن عندما يقترن ذلك بحديث عن صيغة لا تلبّي المطالب اللبنانية في حدها الأدنى، فإنه يعني أن العدو يريد وضع لبنان بين خيارين: إما القبول بالصيغة التي تقتطع المزيد من الحقوق اللبنانية لمصلحة العدو، أو تحميل لبنان مسؤولية تعثّر المفاوضات. وفي حال السيناريو الأخير، سيجري الترويج لمقولة أن المقاومة تضغط على الحكومة اللبنانية لحسابات إقليمية وأخرى داخلية وغيرها من العناوين المكررة. ويهدف ذلك الى التعمية على حقيقة أن لبنان تنازل كثيراً عن حقوقه، ولم يعد مقبولًا مواصلة المسار الانحداري، والى الالتفاف على المقاومة كي لا ترفع مستوى ضغوطها الميدانية لتطويع الموقف الإسرائيلي.
لا يهدف تسليط الأضواء على أهداف الأداء السياسي والإعلامي لكيان العدو الى القول إن المفاوضات آيلة الى الفشل، وإن تطور الأحداث سيؤول بالضرورة الى مواجهة عسكرية. وإنما للإشارة إلى أن امتناع العدو عن الإقرار الرسمي بحقوق لبنان واتّباع سياسة التسريبات التي لا تُلزم إسرائيل بأيّ موقف، يشي بأن هذا التحدي لا يزال يخضع للتجاذبات ومفتوحًا على مروحة من الاحتمالات. وعلى ذلك، ينبغي إبداء الحذر الشديد من تكتيكات هذا العدو المتربص بلبنان وثرواته. وتكفي تجربة أكثر من 12 عامًا من المفاوضات ارتكزت على الرهان على ما قد يحصل عليه الأميركي لمصلحة لبنان لاستخلاص العبر والتشدد في الحذر والبقاء في حالة توثب.
في المقابل، تنبغي ملاحظة أن دخول المقاومة على خط هذا الملف فرض وقائع جديدة ظهرت في بعض المواقف والتسريبات الإسرائيلية التي تتحدث عن مصلحة إسرائيل في أن يكون للبنان منصة في مقابل المنصة الإسرائيلية لإنتاج توازن ردع مع المقاومة، وحتى يكون للبنان ما يخسره في المقابل، من أجل أن لا تبادر المقاومة الى استهداف المنصات الإسرائيلية في أي محطة لاحقة.
التسريبات التي لا تُلزم إسرائيل بأيّ موقف تشي بأن الأمور لا تزال مفتوحة
هذا الموقف يستبطن إقرارًا صريحًا بأن جيش العدو غير قادر على ردع المقاومة عن هذا الخيار، وبأن قدراته الدفاعية والاعتراضية غير قادرة على الحؤول دون هذا الاستهداف من الناحية الميدانية. وهو يختصر الكثير من تحوّلات الصراع، وصولًا الى التحوّل الذي أحدثته المقاومة عندما دخلت بقوة على خطّ المفاوضات. فتحوّل تشخيص القيادتين السياسية والأمنية لمصلحة إسرائيل من حرمان لبنان من استخراج ثرواته الغازية الذي استمر أكثر من عقد، الى أن تكون مصلحتها في امتلاك لبنان منصة لاستخراج هذه الثروات!
يؤشر ذلك أيضًا الى أن العدوّ سلَّم ضمنًا بحقيقة أن لبنان سيحصل على (قدر من) حقوقه، لكنه لا يزال يراهن على تحقيق بعض الإنجازات هنا وهناك. وإلى هذا الأساس المتين، يستند تفاؤل أنصار المقاومة التي حسمت خيارها بانتزاع حقوق لبنان التي تحددها الدولة اللبنانية، مهما كانت أثمانه الإقليمية، وتداعياته على أمن الطاقة العالمي. ولا يقتصر هذا الموقف على من يثقون بخيار المقاومة، وإنما له حضوره القوي أيضًا في الساحة الإسرائيلية. إذ يوجد إقرار صريح بأن رسائل حزب الله التي تُوِّجت برسالة المسيّرات الثلاث نحو كاريش «أجبرت الولايات المتحدة وإسرائيل على أخذ مواقف لبنان على محمل الجدّ ووضع المفاوضات في إطار جدول زمني قصير لأسابيع قليلة يمنع إسرائيل والولايات المتحدة من تمديد الوقت والمماطلة» (مركز يروشالمي للشؤون العامة/ يوني بن مناحم)، إضافة الى أن «ميزان القوى في مفاوضات الحدود البحرية تحوّل الآن لمصلحة لبنان» بعدما نجح حزب الله في إرساء «قواعد جديدة للعبة ضد إسرائيل» أدت الى «تغيير جدول الأعمال والضغط على إدارة بايدن والدول الأوروبية وإسرائيل والشركات الدولية المعنيّة بإنتاج الغاز الطبيعي». ولعلّ الأكثر لفتًا هو أن البعض في إسرائيل عبّر بشكل صريح عمّا يدور في الوجدان الإسرائيلي العام، وبما يجد بعض اللبنانيين صعوبة في الاعتراف به، وهو أن القواعد التي أرساها حزب الله في مواجهة إسرائيل «يمكن أن تكون الضوء في نهاية النفق الذي يمكن أن يخرج لبنان من مأزقه الاقتصادي!…».