IMLebanon

مكتبة البرج

قصتي مع المكتبات، تبدأ بمكتبة أبي، وأنا طفلة، ولن تنتهي بالمكتبة التي شيّدتُها لذاكرتي المفتوحة على مشهديات الثقافة في المدن والعواصم البعيدة والقريبة، في جهات العالم الأربع.

تعرّفتُ إلى مكتبة البرج مذ فتحتْ رفوفها أمامي وأمام الزائرين والزائرات، فبتّ أمرّ بجانبها، وأزورها بانتظام متقطع، لأمتّع روحي بأنفاس الرائحة الخاصة التي ينشرها الورق المحبّر، ولأرى إلى ذاتي في تلك الصفحات التي تختبئ فيها ألف قصيدة وقصة، وتفوح منها عطور المواهب والأحاسيس والخيالات اللامتناهية.

كيف لمكتبةٍ، كمكتبة البرج، أن تشهد حفلة إعدامها، في عاصمةٍ مكلومة، كبيروت، أمام حشدٍ كارثيّ من جيوش النفايات البشرية، وليس ثمة سياسيٌّ واحد يبكي، أو ينتحر، أو يستقيل، أو يصدر بيان تضامن!

كيف لحياةٍ أن تحيا في لبنان، وليس ثمة قوةٌ إلاّ قوة السرقة والعنف والشرّ والفساد والنتانة والبشاعة والجهل والأمّية والظلامية، تعيث فساداً في الحبر، وتشوّه نقاءه التخييلي، وتهجّر الكتب، وكاتبيها، وتخمد أنفاس الأمكنة الخلاّقة، جاعلةً كلّ شيء طيّب ولذيذ وأنيق فريسةً سهلة بين أنياب الوحوش البشرية التي تفتك بلبنان الثقافي الفتك المبين!

كنتُ أقف أمام واجهة مكتبة البرج، وقوف المتذوقة والمنتشية. وكنتُ أدخل إلى مكتبة البرج، لأختار الكتب بعد أن أقلّب صفحاتها وأشمّ حبر ورقها المذهل. وكنتُ أدخل إليها، مراراً وتكراراً، أيضاً، لأشهد للذوق الجمالي والثقافي الرفيع الذي يمثل وراء خياراتها، وأكادني أقول: الأنثوية. وكم استوقفتني الغلف والأكياس والبطاقات والهدايا المعنوية، التي كنتُ أنتقي منها لأحبابي وأصدقائي، مفضِّلةً ذلك كلّه على الهدايا المادية “الفاخرة”، لكن الآفلة، وهذا ما كان يمنحني العميق من العزاء الشخصي، والفكري، ويجعلني أكثر ثقةً بالأمل، وأشدّ تعلّقاً بالآفاق التي تفتحها مكتباتٌ كهذه المكتبة!

أذكر أن مكتبة البرج فتحت مساحاتها الداخلية ومصطبتها الخارجية أمامي، عندما احتضنت حفل إطلاق كتابي، “عودة ليليت”، وهو الكتاب الذي شعرتُ معه أني ولدتُ من جديد. لقد انطبع ذلك الحفل في طبقات ذاكرتي، وسيبقى محفوراً في لاوعيي، عندما يتحرر كل شيء من ربقة الزمان والمكان. كيف لا، وأنا لا أزال حتى هذه اللحظة أرى بين الذين تحلّقوا حولي، الشهيدين جبران تويني وسمير قصير، والراحل ريمون جبارة.

ذلك كلّه، مقترن عندي، بحضور فريق عمل مثقف ونبيل جعل من معرفته وذوقه وأسرار التواصل والتفاعل الخلاّق بين الكتاب وطالبيه، بعضاً من معنى تلك المكتبة، ومن دلالات حضورها في وسط بيروت التاريخي.

سلامٌ إلى الكتب وحرّاسها!