IMLebanon

بلد السأم

علينا أن نقتنع مع السياسيين عندنا بأنّ كلّ ما يحصل هو «مؤامرة» على البلد لإخضاعه وأهله. ثمَّة مَن أقنعَ اللبنانيين عبر تواريخهم الأهلية المتدابرة أن يموتوا في سبيل هذه القضية أو تلك، من قضايا المنطقة، ليثبتوا أنّهم شعبٌ عَصيٌّ على التدجين. وثمّة دولٌ دفعَت أموالاً طائلة وزوّدتنا بشعارات صدّقناها ومضينا بها، من دون أن نقف يوماً على واقعنا في الصحّة والتعليم..

دائماً كانت تنطلي علينا خِدع السياسيين: البلد يواجه «مؤامرة». لكنّ أحداً منهم لم يخرج إلى العلن مرّةً واحدة، خارج استديوهات «التوك شو»، و«رئيسيات الصُحف»، ليقول لنا ماهيّة «المؤامرة» التي تنقلنا من مدفن إلى مقبرة، أو بالعكس. هكذا نمضي في هذا المنطق «الخنفشاري» لنصل إلى خواتيمه: حروب، دماء، تهجير، استعصاء في حلّ قضايا المواطنين، أو قُلْ ساكني الجغرافيا اللبنانية التي لم تتحوّل وطناً تحكمه القوانين.

والأكثر استعصاءً على الفهم هو أنّ جُلّنا مقتنع بأنّ بلادنا هي سويسرا الشرق ومنارتُه، وبأنّ العالم مقيم على قلقٍ من أجل الأرز العليل، وفي سبيل لبنان الرسالة والدور الذي لا يتوقف. أمّا لماذا ومَن قتل الرؤساء بشير الجميّل ورينيه معوّض ورفيق الحريري وساسةً وكُتّاباً ومُفكّرين، فقد يكونون قضوا في «ماس» كهربائي، وليس لنا إلّا التسليم بقضاء الله أو قدره، وفي حال العكس فنحن أمام حرب أهلية لا تُبقي ولا تذر.

بلدُنا ليس دولة لها قوانينها وحدودها. القوانين موقوفة على رغبة هذا الزعيم أو تلك الشلّة السياسية. الحدود تتحرّك توسُّعاً وضيقاً جرّاء مغامرات متكرّرة مع سياسات مستورَدة من وراء الحدود. لبنان برُمَّته لم يكن يوماً طامحاً أو طامعاً بأرضٍ من أراضي الجوار، لكنّه دائماً ما كان مسرحاً لهذا الجوار.

السياسة التي تنهض على منع تكرار ما يحدث مأساوياً تفعل العكس. صارت ميداناً للشحن والشحن المضاد، مقصورة على الكليشيهات التي يتفنّن في صياغتها مَن تصدر اليها دوراً او سلوكاً للتكسب. لم تعُد علماً لبناء الدولة، ولم تعُد دوراً، بل وظيفة لها مداخيلها وامتيازاتها.

الجيش مسرح للمزايدات «الوطنية» وستار واقٍ من تهمة الإنتساب إلى خارج ما. الجميع يريده لفظاً فقط حامياً للوطن، لكنّهم يتركونه هدفاً لتلقّي الرصاص ومن دون عديد ولا عدة. يُطلب إليه حماية الحدود، لكن يُعاب عليه حراكه الوقائي من خلايا نائمة، وتُمنع عنه قوة يتحلى بها حزب منتصر على طول الخط.

وجنوده موزّعون على الحدود لأعداء لا يعرفون غير سفك الدماء. ومن خُطف منهم متروكةٌ سلامته لدعوات أهالي يقيمون في خيَم على الطرقات ولا تسمعهم حكومتهم.

التعليم يزداد انحداراً. وأساتذته لا همَّ لهم سوى الزيادات في الرُتب والرواتب. إقفال المدارس وتوزيع الشهادات كالمواد الإغاثية أمرٌ عاديّ لا ضيرَ فيه. والصحّة تزداد رثاثةً وفساداً وتتحوّل إلى تجارة لا يتصدّى لها غير وزير شاب صمّ آذان السياسيين بفضائحهم إلّا أنّ أحداً لا يتجاوب معه في كشفِ زبانيته الموزّعين في كلّ المناطق ومن دون استثناء.

المواجهة المبتورة في هذا القطاع مقصورة على استهداف أفراد، أمّا مافيات الدواء والشركات الطبّية فتستمرّ بعملها فرحةً جذلةً غيرَ آبهةٍ لا بقوانين ولا بهيئات رقابية.

الصناعة فخرٌ : «صُنِع في لبنان» ابتدعَه وزير شاب قتلته غائلة السياسة اللبنانية. والزراعة لا تعرف غيرَ مواسم الكساد، فيما البلاد مفتوحة للاستيراد ولا تعرف التصدير.

قبل هذا كلّه، فإنّ البرلمان مهجوس بـ«ديموقراطية الضرورة»، ولا شاغلَ له غير التمديد لنفسه، كما كان الحال زمنَ الحرب الأهلية. والحديث الممجوج عن انتخاب رئيس الجمهورية. وهو لا كلام لا قاع مرئياً له.

هذا بلد السأم، ولا يستطيع نظامه السياسي الراهن أن يستمرّ ما لم يكن في نهاية النفق ضوءٌ. والأمل، بعد الله، وحده يصنع المعجزات. وسرّه أنّه يُبنى على الوقائع. ومن كانت حاله كحالنا، وكان مستقبله قاتماً إلى هذا الحد، لا يعود الكلام مجدِياً للَجمِ الانحدار.