Site icon IMLebanon

«البوسطة» والاستقرار.. و«الطائف»

لم ينزل اللبنانيون من «البوسطة». ما زالت «البوسطة» تنقلهم وتتنقل بهم منذ أربعين سنة حتى اليوم، بين سلام بارد لا يرحم من القلق والخوف، ومواجهات محدودة تذكر في بعض وقائعها بعضا من تفاصيل الحروب الماضية المزروعة في كل الذاكرة الشعبية العميقة، والقول دائماً تنذكر وما تعاد يؤكد الخوف منها. لم يفعل احد من الجميع مسلمين ومسيحيين ويساريين ويمينيين ومثقفين وعاديين شيئا للنزول من «البوسطة» نهائيا. «ما زاد الطين بلة»، وقوع اكثر من حرب أهلية على مساحة المشرق حتى الان تتنافس فيما بينها بعدد الضحايا والدمار والأفق المسدود للخروج منها بحلول تصيغ ولو سلاماً بارداً. 

ولا شك ان المذهبية في أسوأ مضامينها ومعطياتها وخوف المسيحيين من الغد، بعد كل ما حصل ويحصل في العراق واستمرار تضخم وجود «داعش» قد اضافت الى العجز العام المترسّخ كل ما يلزم من الأسباب الكافية لهذه الإقامة المستمرة في «البوسطة». ولا شك ان الخوف من «داعش» ليس خاصا بالمسيحيين، بل هو عام بعد ان تحول لبنان من ارض نصرة الى ارض جهاد بعد تدخل حزب الله في الحرب ضد الشعب السوري دعما للرئيس بشار الاسد الذي ببراميله المتفجرة هو «نعمة من الله«! 

ضمن الأسماء على الحروب التي أطلقت، كانت «حرب الالغاء»، وبعيداً عن أطراف تلك الحرب، فان الأساس فيها ما زال فعلاً وممارسة من أطراف ضد أطراف اخرى تبعاً لموازين القوى. وهذه الحرب ليست فقط بين القوى والطوائف والجبهات والتيارات وإنما ايضاً هي داخل كل طائفة وطائفة وفي داخل كل جبهة وتيار علماً ان الالغاء حرب خاسرة قبل ان تشن، لانه لا يمكن لأحد إلغاء احد، مهما بلغ من القوة، وحتى لو استطاع ان يهيمن فانما ذلك لفترة زمنية مهما طالت تبقى قصيرة بالنسبة لحياة شعب كامل. يكفي لتأكيد هذه البديهية التي لا يعمل بها احد حتى الان نهاية «المارونية السياسية»، التي شتّتت وقسّمت المسيحيين بين المعسكرين الشيعي والسني للاستقواء بهما وأحدهما على الاخر. النتيجة معروفة جيدا هذا الفراغ الرئاسي المهدد لمستقبل لبنان وخصوصا المسيحيين. 

وضع القوى السياسية من الفراغ الرئاسي مثل وضع كل اللبنانيين من الحرب الأهلية. الجميع يريد الخلاص ولا احد يعمل فعلا للخلاص، لان القرار الأخير ما زال معلقاً في الخارج وموزعا على عواصم القرار الدولية والإقليمية. ويبدو ان استمرار هذا الفراغ يفتح الشهية لإجراء تغيير في «الطائف» عاجلاً ام اجلاً. حتى الان التغيير في ماذا وأين والى اين ما زال غامضاً. لكن توجد قناعة خارجية لدى بعض العواصم التي تتعاون ضمناً لابقاء لبنان على شبكة أمان تثبت السلام الأهلي البارد وتمنع انهياره ان «الطائف» بحاجة للتعديل. ويبدو ان باريس منذ مؤتمر سان كلو مقتنعة ان ايران ومعها «حزب الله« يريدان ذلك تأكيدا لتغيير موازين القوى الداخلية، وتعويضا لحزب الله عن الخسائر التي دفعها في سوريا والعراق واليمن التي ساهمت في دعم الوجود الإقليمي لايران. 

الحرب لا تبدأ فقط بـ «البوسطة» وإنما تشتعل ايضا بسبب خطاب او تصريح. هشاشة تركيب لبنان وضعف المواطنية لدى اللبنانيين تغذي هذا الوضع القاتل. ما لم يتم بناء المجتمع المدني كليا، ويصبح ولاء اللبناني للبنان الوطن اولا، وما لم يصبح القانون يعلو وينفذ على الجميع، وما لم يصبح الدين التزاماً روحياً وشخصياً وليس حزبياً، وما لم تكن التنمية حقاً وليست منة وبالتساوي بين كل المناطق، فان لبنان سيستمر في العيش فوق «فراش زئبقي» يشعره احيانا بالراحة، ولكن لا يمنحه الاستقرار المستمر والدائم.