فلسطينيّو “برج البراجنة” إحتجاجاً على “صفقة القرن“:
هو يوم أربعاء في الروزنامة العالمية، وهو يوم غضب في السيرة الفلسطينية، وهو يومٌ كانونيٌّ بامتياز في التقسيم الزمني. البارحة، في أربعاء الغضب الفلسطيني، لبِست المخيمات في لبنان ثوب الإحتجاج معلنة، بأسلوبٍ ناعم، أن صفقات القرن لن تمرّ إلا على جثثِ من رضعوا مع الحليب جرعات تراب من القدس والجليل وعكا ونابلس وبيسان وصفد وطبريا وأريحا وحيفا ويافا… ومرّ الأربعاء…
كلمتان أعادتا إحياء كلّ القلق في نفوس كل الفلسطينيين: صفقة وقرن. كلمتان ترافقتا فأصبحتا “صفقة القرن”. والصفقة في التجارة، هي بيعة، هي عقد، وهي كما ورقة اللوتو فيها ربح وفيها خسارة، لكن حين تحصل الصفقة على شعب وأرض تُصبح مؤامرة. فهل الغضب الفلسطيني قادر أن ينهي المؤامرة؟ هل الغضب الشعبي البارحة بدّل في بنود الصفقة أي تبديل؟
مخيّم برج البراجنة إستعدّ منذ الصباح ليوم الغضب لكن بهدوء فائق لافت. فهل الغضب والهدوء يجتمعان؟
زحمة شديدة عند مدخل المخيّم. محال نقولات تبيع بالجملة. الكعكة الطرابلسية المحمصة على الفحم عند مدخل المخيّم. صورة أبو عمار كبيرة عند المدخل مذيلة بعبارة: ستبقى كوفيتك هوية الأحرار.
لا أحد مستعجلاً على شيء. الرجال يجلسون على كراس تتوزع على الأرصفة. النساء يجلسن تحت الشمس المشرقة بحياء. والشبان يتناقشون حول فلسطين ومصير فلسطين. الشعب الفلسطيني يُبهر حقا بعشقه لوطنٍ لم يره في حياته. رجلٌ يبدو، من عينيه، شبه ضائع في “همروجة” هذا العمر نسأله عن صفقة القرن فيجيب: “هيدي طبخة بحص” ويستدير ويمشي.
كلّ الحركات والتحالفات والمنظمات موجودة في المخيّم. منظمة فتح لها مكاتب كثيرة. القيادة العامة لها مراكز. حماس ليس لها مكاتب ظاهرة. الصاعقة لا مكاتب ظاهرة لها. الجهاد الإسلامي مقرّه في المسجد، عند مدخل المخيّم.
نقف مع الشاب وسام، المختار كما يُطلق عليه في المخيّم، الى جانب صورة لأبو عمار كتب عليها: في الليلة الظلماء يُفتقدُ البدر. ومن دون أن نسأل وسام يبدأ في الكلام: “نحن لا نبيع لا حجراً ولا قدساً ولا فلسطين ولن نتنازل عن حقّ أي طفل أو إمرأة أو رجل أو شعرة بيضاء. نحن شعبٌ لا يساوم على حقّ”. جميلٌ هذا الكلام، لكن ما هي الوسائل التي ستُستخدم في الدفاع عن الحقّ؟ يجيب: “سنستخدم الدعاء والاحتجاج. أما الحسم فسيكون لرجال المقاومة في فلسطين. نحن ندعم المقاومة بالمال وإذا احتاجت الى رجال فسنكون معها”. يقول هذا ثم يستدرك: سنذهب إذا فتحت لنا الدولة اللبنانية الحدود”.
أبو الجماميل مع صفقة القرن!
هدايا الشعب الياباني الى فلسطينيي مخيّم برج البراجنة كثيرة. و”شكرا” كلمة تتكرر من سكان البرج: أهالي حيّ الوزان يشكرون الشعب الياباني على مساعدتهم في تأهيل شبكة الكهرباء. عبارة في زقاق. رائحة الفلافل قويّة. سعر الدزينة الواحدة مع صحن خضار 1500ليرة. كل شيء في المخيم الفلسطيني أرخص. النرجيلة الواحدة “كاملة مكملة” بألفي ليرة. وجمال حمكين، من حلب، قرر أن يسكن في المخيّم بعدما ضاقت به الحياة خارجه. أبو الجماميل كما ينادونه ناقم على الفلسطينيين الذين أجّروه محلا مساحته ثلاثة أمتار بمترين بسعر 750 ألف ليرة. وناقم على الزعماء وعلى كلّ كلّ شيء ويقول: “الساسة العرب لا يريدون صفقة القرن لأنهم يريدون أن يبقوا على كراسيهم”. ماذا يقصد بهذا؟ يجيب: أنا مع هذه الصفقة التي إذا تمّت “ستحلحل” كثيراً من الأزمات الإقتصادية والمشاكل في الشرق الأوسط. صفقة القرن إذا تمّت ستجعل بلادنا تستقرّ بعدما اعتمد من اعتمدوا سياسة تفقير الشعوب العربية وجعلوا دخل الفرد الواحد أقل من دولارين. وهناك مثلٌ يقول: جوّع الكلب يتبعك. سمّن الكلب يأكلك. إذا طبقت الصفقة ستحرص أميركا على استقرار المنطقة وحينها نعود نحن، السوريين، الى بلادنا”.
التحليلات في السياسة كثيرة. سكان المخيمات يشغلون أنفسهم بالتحليلات. نمرّ أمام مكتب حركة التحرير الوطني الفلسطيني فتح في لبنان ونقرأ عبارة على شرفة مطلة: الثورة مستمرة والنصر آتٍ. أحلى ما في الشعب الفلسطيني هو قدرته على التفاؤل حتى ولو كانت الصورة سوداء قاتمة.
محل يبيع الدخان بالجملة ويصرّف الدولار بسعرٍ يزيد عن سعر السوق. وأكثر ما يباع هو دخان 1970. نسأل عن طبيعة هذا الدخان. عن مصدره. فيجيب أحد العاملين: “هو دخان سوري. ماهر الأسد أطلقه وهو يؤرخ سنة قبض فيها حافظ الأسد العام 1970 على الحكم. العلبة بألف ليرة وفلسطينيو المخيمات يدخنون “1970”.
2 أمبير ونصف في برج البراجنة بسعر 65 ألف ليرة. والسعر، في بعض الشوارع، يرتفع أكثر. أبو الطيّب من الجليل يهرول في المخيّم ناقلاً خبراً وصل للتوّ على الواتس آب: “ميشال عون الرئيس اللبناني، إتصل بأبي مازن وأخبره أن لبنان ضدّ صفقة القرن”. أبو الطيّب فلسطيني من مخيّم اليرموك انتقل، في الحرب السورية، الى برج البراجنة ويقول: أتى كيسنجر وغادر مع مؤامراته وأتى اوباما وغادر وأتى كلينتون وغادر وسيغادر ترامب كما أسلافه وستبقى فلسطين للفلسطينيين”.
كلام أبو الطيّب، كما من سبقوه، جميل لكن هل المواجهة مع الرئيس الأميركي تكون باحتجاجات في مخيمات لبنان؟ يجيب بحنقٍ: معركتنا مع الكيان الصهيوني ستبقى الى يوم القيامة. فلسطين فينا وأمهاتنا “ولادات” يموت منا واحد ويولد عشرة”.
زحمة سكنية هائلة في مخيّم برج البراجنة. العدد كان 22 ألفا وأصبح، بعد نزوح فلسطينيي سوريا، أكثر من خمسين ألفا. ندخل الى مكتب فتح فيستقبلنا اللواء أبو محمد الشقور، مسؤول الإرتباط والتنسيق الفلسطيني، الذي ينفي وقوع الفلسطينيين في المخيمات تحت وابل الأزمة الإقتصادية اللبنانية “لأن في المخيمات تكافلاً إجتماعياً والسفارة الفلسطينية حريصة على مساعدة من يحتاج الى مساعدة” ويستطرد: “نوزع مساعدات شهرية للأسر تبلغ خمسين ألف ليرة لبنانية وتوزع قيادة الحركة ألف ربطة خبز يومياً مجاناً. وهناك مساعدات من الأونروا”. التكافل مطلوب دائما لكن ماذا عن الغضب الفلسطيني العارم من “صفقة القرن”؟ يجيب: “ترامب أعلنها من طرفٍ واحد. هذه صفقة عار وليست تسوية والهدف منها شقّ القضية الفلسطينية وترويض القيادة والأخ أبو مازن. وهذا لن يحصل مطلقا”.
سمعنا عن عدم القبول بأي تسوية عشرات المرات في يوم الغضب ومئات آلاف المرات على مدى 72 عاما لكن، بعدما بدا أن القضية الفلسطينية هذه قد استوت، فماذا سيفعل الفلسطينيون هذه المرة؟ يجيب اللواء: سنردّ عليهم بالوحدة الفلسطينية التي دعونا إليها بكافة الفصائل. نريد إنهاء الإنقسام والإتفاق معاً على مشروع وطني فلسطيني متكامل. هكذا نواجههم في الشتات على أن نواجه، في فلسطين، بالمقاومة المسلحة في الضفة الغربية. ونقول للدول التي لجأنا إليها: إذا منحتمونا السماح لفتح الجبهات من بلادكم فنحن جاهزون”. الكلّ على جهوزية للحراك إذا سُمح لهم. والكلّ سيواجه. والكلّ يرفض الإذعان للصفقة. والكلّ ينتظر، في هذه المرحلة المصيرية في كلّ المنطقة العربية، ماذا سيلي؟
نمرّ أمام عناصر مسلحة. نتمهل. نحاول إلتقاط الصوّر لكن القرار قرار: ممنوع تصوير الأماكن العسكرية. نسأل عنصراً عن السلاح في يديه فيجيب: كلاشنيكوف روسي. نتوجه نحو اللجنة الشعبية لمخيّم برج البراجنة. أبو بدر، أمين سرّ اللجنة الشعبية، يقف أمام الخريطة الفلسطينية ويرد: يا فلسطين ولا أغلى ولا أحلى وأطهر وكلما حاربتُ من أجلكِ أحببتك أكثر. هناك عشق بين الرجل وفلسطينه. فكيف سيحتجّ من موقعه على “صفقة القرن”؟ يجيب: الشعب الفلسطيني لن يقبل أن يتخلى عن وطنه إلا إذا أتاه زلزال بلع الشعب والأرض. ويستطرد: المجتمع الدولي غير منصف وينظر بعينٍ واحدة ويتصرف بما لا يملكه. لهذا علينا أن نحلّ الآن وسريعاً مشاكلنا الداخلية والتنازل عن غصن الزيتون الذي رفعه أبو عمار وحمل البندقية والوقوف الى جانب الممانعة”.
هل نفهم من هذا أن الفلسطينيين في لبنان ينوون أن يقاوموا من الجنوب؟ يجيب: “نحن سنكون الى جانب حزب الله وإيران ومن يناصرنا والأحرار في العالم. وأحب أن أخبر من لا يعرف أن في غزة اليوم أسلحة متطورة وصواريخ بعيدة المدى، صنعت محلياً، قادرة أن تصل الى تل أبيب”.
بدأت التجمعات. بدأ الإحتجاج. ارتدى الأطفال ألوان العلم الفلسطيني. أدوا النشيد الفلسطيني. رفعت الشعارات. التقط المصورون صور يوم الغضب. وانتهى النهار. تُرى هل التقطت عيون دونالد ترامب الصورة؟ نغادر ونحن نصغي الى أم وليد وهي تغادر التظاهرة الإحتجاجية، مهرولة وراء فان يبيع الغاز تسأله عن سعر القارورة المعبأة كاملة؟ يجيبها: تسعون ألفا. تقول له: “يقبر عيونك”. وتلتحف بشال من الصوف وتدخل الى منزلها واضعة “طبخة بحص” على غاز فارغ. وكم تشبه طبخة أم وليد طبخات هذا الزمان.