IMLebanon

برج حمّود الضاحية الأبيّة

 

 

أدماها الإنفجار والبلدية مايسـترو الإغاثة

 

حين دوى انفجار المرفأ، كانت برج حمود، الضاحية الشمالية المسالمة الأقرب الى بيروت، تستعد لإغلاق أبواب متاجرها والعودة الى أحضان بيوتها المتواضعة. متعبة كانت من ظروف اقتصادية وبيئية صعبة، تجاهد مع كل طلعة شمس لاستعادة دور اقتصادي رائد كان لها يوماً، وتعمل بكدّ حتى لا تغوص في أعماق الفقر الذي يجرفها البلد نحوه. في غروب ذلك اليوم انفجر الوجع والفقر والدم في شوارعها واحيائها وبيوتها فأدماها. بكت، تألمت لكنها بسرعة تحدّت الموت ورسمت معالم العودة الى الحياة. إنها برج حمود…

لم تمض ساعتان على الانفجار حتى كان رئيس بلدية برج حمود مارديك بوغوصيان مع أعضاء من المجلس البلدي على الأرض يتفقدون آثار الزلزال ويعاينون الاحتياجات الفورية للناس المصابة والمرعوبة ويتواصلون مع قسم الاشغال ليعملوا فوراً على فتح الطرقات وإزالة الردم والزجاج المتراكم في الشوارع لتأمين التنقلات وإغاثة المصابين. وبسرعة تم التعميم على أفراد شرطة البلدية بمضاعفة الدوريات لتفادي اعمال السرقة والنهب التي بدأت تظهر معالم لها في الشوارع والأزقة المتضررة…

 

في المساء نفسه توجّه رئيس البلدية بنداء الى أهالي المنطقة طالباً منهم ابتداءً من اليوم التالي أن يكون كل مواطن خفيراً يفتح عينيه لمراقبة التجاوزات وتبليغ البلدية بها وأن يعمل مع أعضاء الهيئات الأهلية وفاعليات المنطقة لتنظيف المساحة الخاصة أمام منزله. لم تكن البلدية وحدها الحاضرة على الأرض الى جانب ناسها في ليل الرعب ذاك، فسيادة كاثوليكوس الأرمن الأرثوذكس لم يتأخر في الوقوف الى جانب رعيته فكان اول الرسميين الواصلين الى أهل برج حمود المضعضعين الخائفين، برفقة النائب هاغوب بقرادونيان وبعض نواب المنطقة الى جانب رئيس البلدية. في ذاك الليل المشؤوم كان همّ برج حمود بكل فاعلياتها نجدة الأهالي وإسعاف المصابين، فهي فقدت في الانفجار ست ضحايا من أهلها وعدداً كبيراً جداً من الجرحى نزفوا كأهل بيروت دماً وألماً وخوفاً.

روعة التعاضد وأهمية التنسيق

 

لم تتأخر البلدية، بالتعاون مع غرفة إدارة الكوارث في قائمقامية المتن، في وضع تصور لما يجب ان تكون عليه اعمال التنظيف وإزالة الردم صباح اليوم التالي للإنفجار لكنهم تفاجأوا كما كل الأهالي بـ 12 بلدية من مختلف المناطق اللبنانية وقد أرسلت آليات وعمالاً ومسؤولين ومتطوعين للعمل على إغاثتهم ومد يد العون لهم، وملأ الطرقات أكثر من 1500 شاب وصبية أتوا من مختلف المناطق للمساعدة في التنظيف وإزالة الركام والزجاج. “كان الأمر مفاجئاً ومؤثراً بالنسبة إلينا يقول جورج كريكوريان وهو عضو في المجلس البلدي كان حاضراً بفعالية على الأرض، واضطررنا مع تدفق المساعدة الى تبديل الخطة الاولية التي وضعناها وإعداد تنظيم معين لتنسيق العمل بين مختلف الفئات المتطوعة، وهو الأمر الذي جنّبنا الكثير من الفوضى. ومساء بعد ان هدأت الأمور قليلاً واستجمعنا شتات أفكارنا قمنا بوضع خطة تنظيمية مدروسة لتوزيع المتطوعين والتنسيق بين كل الفئات والمعدات وذلك وفق موقع كل فئة وامكانياتها ما أدى الى تقدّم العمل بشكل سريع جداً”. هنا قدمت برج حمود مثالاً مشرّفاً على العمل الجماعي وعلى قدرة الناس متى تضامنوا وانتظموا تحت لواء إدارة جيدة على الإنجاز وهذا ما جعل وزير الداخلية محمد فهمي الذي زار المنطقة لاحقاً ان يقدمها كمثال على فعالية العمل الجماعي ودعا الناس الى المقارنة بين مشهد برج حمود يوم الإنفجار وبعده بيومين إذ كادت أعمال التنظيف وإزالة الردم تعيد الشوارع الى ما كانت عليه.

 

بلدية، محافظة، قائمقامية، جمعيات وافراد تعاونوا كلهم ضمن فريق متجانس مستعدون لتلقي التوجيهات والعمل كيد واحدة. بعض المتطوعين لم يعرفوا سابقاً اين تقع برج حمود ولم يزوروها ربما، لكن لهفتهم للمساعدة جعلتهم يتحولون بكامل رضاهم الى جزء من ماكنة كبرى تعمل بلا كلل. لبنانيون طيبون أتوا من تلقاء أنفسهم؛ كلهم حضنوا برج حمود بمحبة ومن جهتها اهتمت بسلامتهم وسلّمتهم أماكن عمل لا مخاطر فيها. كلهم كانوا مدركين لأهمية التنظيم والانضباط، وضعوا الأنا جانباً، تلك الأنا التي سببت مآسي كثيرة في لبنان، لم يكن لها في برج حمود مكان. وربما يكون هذا الفهم لأهمية التنظيم والانضباط والاندماج ضمن مجموعة قاعدة يرتكز عليها لبناء وطن ودولة قابلة للعيش.

 

بين بيروت وبرج حمود

 

يستغرب المتابع لهذا المشهد الذي ساد برج حمود عقب الكارثة كيف تمكنت هذه البلدية المتواضعة الإمكانيات أن تنسق بفعالية بين مجموعات كبيرة فيما غاب التنسيق، وفق كل المراقبين، عن أعمال التنظيف وإزالة الردم في بيروت رغم وجود بلدية هي الأكبر في لبنان وبإمكانيات أعظم بكثير من جارتها الصغرى. فهل يمكن الحديث عن معجزة أرمنية وعن صلابة شعب عنيد وقدراته على المثابرة والعمل الجدي؟ بتواضع يقول القيمون على بلدية برج حمود ان الأضرار عندهم لا تقارن ببيروت ومن الطبيعي في ظل وجود تضارب في الصلاحيات وشد حبال وكثرة عدد المتطوعين ان تحدث فوضى ونوع من سوء الإدارة. ولكن ألم تنل بيروت الحصة الأكبر من الدعم والمساعدة والعدد الأكبر من المتطوعين و الجمعيات؟ “أخلاقياً لا يمكننا ان نشكو، يقول المسؤولون، فالنكبة هناك أكبر ومن باب العدالة والإنسانية أن يكون الاهتمام ببيروت اكبر”. لكن الجارة الأقرب الى بيروت وبحسب المسح الشامل تحملت معها الكثير ودمر فيها ما يقارب 3% من بيوتها دماراً كاملاً ومن 7 الى 13% دماراً جزئياً فيما شهد حوالى 55% من مساكنها اضراراً متفاوتة ولم يسلم إلا 25% من بيوتها خاصة أن معظم مبانيها عتيق يعود تاريخ بنائه الى سبعين وثمانين سنة واكثر.

 

لكن التحديات لم تتوقف عند إزالة الردم والتنظيف فالاحتياجات كثيرة والناس في هذه المنطقة بحاجة لمساعدات عاجلة فبرج حمود تضم أكثر من 170000نسمة وأكثريتهم من الطبقات الشعبية التي باتت على شفير الهاوية. الجمعيات لم تتخاذل بل اتت باعداد كبيرة لتقديم المساعدات، بشكل عشوائي في البداية ما خلق مشكلة جديدة بين الناس الذين كان بعضهم يحصلون على أكثر من حصة من أكثر من جمعية فيما لا يحصل آخرون على اية حصة، حتى ان البعض حوّل الأمر الى تجارة لكثرة ما ناله من حصص وبات يبيع ما جناه في المحلات. هنا أيضاً كان تدخل البلدية ضرورياً وحاسماً ليس فقط لتحقيق التوازن في المساعدات بل للحفاظ على الأمن الاجتماعي في منطقة تشهد تنوعاً دينياً ومذهبياً واتنياً وحزبياً هائلاً. فبرج حمود لبنان مصغّر لا بل شرق أوسط مصغر، ففيها، مع النبعة، من كل الفئات والاتنيات ولا يمكن إلا تحقيق نوع من العدالة والتوازن بين الجميع في المساعدات حتى لا ينعكس الأمر سلباً على التعايش بين جيران الأحياء المختلفة. سعت البلدية الى كودرة عمل الجمعيات القادمة من خارج المنطقة ودعتها للتعاون مع الجمعيات والهيئات المحلية التي تملك قوائم مفصلة للمحتاجين من أهالي وسكان برج حمود، رغم ان هذه القوائم حسبما يخبرنا السيد جورج كريكوريان، باتت بحاجة لتحديث لأن اعداد المحتاجين قد ازدادت بشكل كبير بعد الازمة الاقتصادية وتراجع مدخول العائلات والأفراد وتحوّل معظمهم من فئات متوسطة الى فقيرة. لكن بهذا التعاون بات بالإمكان توزيع المساعدات العينية بشكل منظم وعادل يطال كل المحتاجين.

 

عمل الجمعيات يجعلنا نتساءل ألم يكن للأحزاب الفاعلة في المنطقة دورها في تولي الأمور وتوزيع المساعدات كما تعودنا في لبنان عادة؟ لكن الجواب غير منتظر فبرج حمود فيها حضور للأحزاب اللبنانية كافة وليس للأحزاب الأرمنية فقط، فـ”حزب الله” كما حركة امل متواجدان الى جانب القوات اللبنانية والتيار الوطني الحر والكتائب والطاشناق وغيرها. وكلها عملت معاً على خط دعم المجتمع والشرائح المتضررة فيه وساهمت في حفظ الهدوء في منطقتها، فعلى خلاف المناطق اللبنانية الأخرى، هنا أعضاء الأحزاب المختلفة ابناء حي واحد، تربوا مع بعض ولعبوا كرة القدم سوياً وارتادوا المدارس ذاتها لذا هبوا كلهم للمساعدة وتعاونوا مع البلدية لتنظيم كل الأعمال.

 

مسح الأضرار تحد ناجح

 

وكان الأمر الأصعب في برج حمود مسح الأضرار مسحاً علمياً دقيقاً وهوالتحدي الذي واجهته وما زالت تتخبط فيه مدينة بيروت واحياؤها المتضررة. لكن البلدية التي كان لها تعاون سابق مع هيئات كثيرة في الأمم المتحدة وإحداها UNHABITAT طلبت المساعدة التقنية من هذه الأخيرة ودعت الجمعيات التي تريد مسح الأضرار الى اجتماع للعمل على التعاون والتنسيق مع البلدية حتى لا تتشتت الجهود لا سيما وان المنطقة تضم اكثر من 5000 مبنى. فتم الاتفاق على جمع كافة الموارد الخاصة بالمسح وتقسيم المنطقة الى قطاعات يتولى كل منها جمعية محددة مع تشارك المعلومات على منصة إلكترونية، بحيث يكون أمام كل جمعية كافة المعطيات عن القطاعات الأخرى ومعلومات شاملة عن الأضرار في كل المنطقة. وبهذا يكون قد تحقق مسح الأضرار بسرعة قصوى لم تتعد الأيام الثلاثة رغم الامكانيات المتواضعة. وما عجزت عنه بيروت، تمّ تنفيذه في برج حمود حيث كان التعاون قوة مرة جديدة.. وفي الوقت نفسه الذي كان يتم فيه مسح الأضرار كان يتم ايضاً مسح للاحتياجات المالية والغذائية والصحية لأهل المنطقة بواسطة آلية المشاركة ذاتها وكانت بلدية برج حمود هي المايسترو الذي ينسق سمفونية العمل المتجانس مع حرصها ألا تسمي قائداً او تشكل هيئة مشتركة منعاً لإثارة اية حساسيات والا تتولى هي نفسها توزيع اية مساعدات حتى لا تكون طرفاً في هذه العملية الحساسة.

 

 

في ظل كل هذا العمل الإنقاذي نسأل المعنيين اين دور الدولة ؟ ألم تكن اجهزتها حاضرة للمساعدة؟ “كنا نطلع هيئات الدولة، يقولها السيد كريكوريان، على ما نقوم به اما المشاركة فكانت شبه معدومة”. هي الجمعيات والجامعات والهيئات أرسلت طواقمها ونحن تولينا توزيعها فرقاً وطواقم لإتمام العمل تضم مهندسين وعمالاً اجتماعيين وصحيين مع استمارات طلبنا من الناس ملأها وقمنا بتعميمها على الصليب الأحمر وهيئات الأمم المتحدة والسلطات اللبنانية ليكونوا على بينة من الاحتياجات.

 

لا شك حدثت فوضى وظواهر مزعجة وفي ظروف كهذه هي مفهومة، فكثرة الجمعيات وعدم التزام بعضها واندساس اشخاص يقومون بادعاء المساعدة وجشع بعض الناس كلها عوامل خلقت بعض التضعضع لكن البلدية عملت على خطة عمل لتوحيد كافة جهود المساعدة عبر منصات إلكترونية تسمح للجميع بالمشاركة ومعرفة احتياجات الناس. وبالتوازي مع أعمال المسح كانت المساعدات تصل الى محتاجيها من افراد ومؤسسات ويتم وضع تصور لما يحتاجه هؤلاء في المستقبل القريب من ترميم للبيوت ومساعدات عينية للعائلات واقتصادية للمؤسسات لإعادة تسييرعجلة الحياة اليومية والاقتصادية في برج حمود.

 

العمل لا يزال كثيراً والاحتياجات اكثر وبرج حمود الخارجة من مأساتها تنظر الى القادم من الايام بعين حذرة خائفة. فمساعدات اليوم قد يمحوها الغد، والناس التي حضنها المجتمع الاهلي بعد أن تخلت عنها الدولة قد لا تلقى في الغد يداً تمتد نحوها.