منذ اللحظة الأولى٬ اقتحم الحلبة بشهية الملاكم الكبير. قراره واضح. أنا لست أوباما. وأميركا في عهدي ليست امتداًدا لأميركا في عهده. والرئيس يشبه المرشح للرئاسة. ولا يخشى النخبة البيروقراطية والكونغرس وخناجر الإعلام. بدا كمن يوقع مسلسل القرارات التنفيذية بقبضته. ومنذ اللحظة الأولى فرض أسلوبه. يوجه اللكمات ويتلقى اللكمات.
من المكتب البيضاوي ألقى سلسلة من القنابل وعلامات الاستفهام. حبس العالم أنفاسه. إنها طريقة أخرى في مخاطبة الأميركيين. وفي مخاطبة الحلفاء والخصوم. فتح كل الملفات على مصراعيها. اتفاقات التجارة وشجون الهجرة وأعباء التعاون الدفاعي ومحاربة الإرهاب. أعطى الانطباع أنه يحاول تأسيس أميركا مختلفة في الداخل. وأميركا مختلفة في العالم.
لا يريد أن تكون بلاده شرطي العالم. قالها بوضوح في طريقه إلى البيت الأبيض. ولا يعتبر أن من واجبها زراعة الديمقراطية بالجراحات العسكرية. يريد أميركا قوية ومزدهرة. يريد استعادة ما يعتبره حقوقها المهضومة في تعاملات تجارية والتزامات دفاعية. أميركا ليست جمعية خيرية توزع الهدايا وتنفق الدم والمليارات لترجع صفر اليدين كما حصل في العراق.
لم يقلقه اضطراب الأيام الأولى. اعتبره طبيعًيا حين يحاول لاعب كبير تغيير قواعد اللعبة. ولأن أميركا المزدهرة يجب أن تحرسها أميركا القوية٬ حمل معه إلى دائرة القرار باقة من الجنرالات. جنرالات يعرفون أن فلاديمير بوتين خدع باراك أوباما في ملف السلاح الكيماوي في سوريا. تحول الخط الأحمر الذي أعلنه أوباما هناك فرصة للتندر والاعتقاد أن الهيبة الأميركية شاخت.
سرق تنظيم داعش الأضواء حين استولى على الموصل في يونيو (حزيران) 2014 .تغير المشهدان الإقليمي والدولي وتغيرت معهما الأولويات. انهمك العالم بمحاولة الاحتماء من الذئاب المنفردة واستيعاب أمواج اللاجئين. كان هذا الانشغال فرصة للذئاب الإقليمية والدولية المتربصة. في ظل انهماك العالم بـ«داعش» راحت هذه الذئاب تحرك بيادقها وتستكمل تنفيذ انقلابات أخطر ربما من انقلاب البغدادي. أخطر لأنها تفرض تغييرات ديموغرافية وتتلاعب بمصائر دول ومجموعات.
اعتقد كثيرون أن دونالد ترمب سيقرأ الوضع الدولي من خلال ذئاب «داعش» وحدها٬ وأنه سيسارع إلى التحالف مع بوتين لاقتلاعهم. توهموا أن الإدارة الجديدة لن تسارع إلى فتح ملفات الذئاب الإقليمية التي تنتهك حدود جيرانها وتحاول تطويعهم وإخضاعهم. يبدو أنهم أخطأوا في الحساب.
بين الرسائل التي وجهتها إدارة ترمب إلى الذئاب الإقليمية كانت تلك التي وجهت إلى الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون الذي أدمن سياسة الابتزاز النووي والصاروخي. فقد طمأن وزير الدفاع جيمس ماتيس كوريا الجنوبية واليابان إلى التزام أميركا تعهداتها الدفاعية ونّبه حفيد كيم إيل سونغ إلى أن الرد على أي هجوم نووي سيكون «ساحقًا». وتأكيد واشنطن أن التزاماتها حيال سلامة اليابان لا تتزعزع رسالة موجهة أي ًضا إلى الصين التي ضاعفت في الشهور الماضية عرض عضلاتها في موضوع الجزر.
رسالة أخرى تعني هذه المرة أهل الشرق الأوسط. أعلنت واشنطن سريًعا وبصورة قاطعة نهاية رقصة التانغو الأميركية الإيرانية التي أنقذت الاقتصاد الإيراني من الانهيار عبر الاتفاق النووي وعائداته. اتهمت إدارة ترمب إيران بدعم الإرهاب وابتلاع العراق واتخذت عقوبات جديدة ضدها. وهذا يعني أن أميركا لن تسلم لإيران بما حققته في العراق وسوريا ولبنان واليمن مكتفية بالتركيز على «داعش».
واضح أن أميركا وإيران تتجهان نحو اختبار قوة وامتحان إرادات. وقد نشهد هذا الامتحان في مياه الخليج أو بصورة أوضح على أرض العراق. كل المؤشرات توحي بأن إيران تريد استعجال خروج الجنود الأميركيين من أرض العراق لأنهم يوفرون شيئًا من المعادل لنفوذها الهائل في بغداد. للموقف الأميركي من طهران نتائجه أي ًضا في سوريا وملامح «الحل الروسي» هناك.
الرسالة الثالثة وجهت إلى روسيا نفسها. إدارة ترمب لا تنوي التسرع في إعطاء نظام بوتين شهادة حسن سلوك وكأنه لم يفعل ما فعل في القرم وأوكرانيا.
ملاكم كبير واضطراب كبير. ذئاب منفردة وذئاب إقليمية. وفي انتظار انقشاع الرؤية وانحسار الضباب الكثيف٬ على العرب إعداد أوراقهم وبلورة قدرتهم على الانخراط في رقصة المصالح. لا بد من حسابات دقيقة في زمن الملاكم والجنرالات والذئاب الإقليمية.