الصورة استثنائية فعلاً. لا الزائر عادي ولا صاحب الدار. والمرحلة حرجة. استقبله في قصر الأباطرة في سان بطرسبورغ. في المكان الذي شهد بعض خطط الحرب ضد السلطنة العثمانية. يتظاهر التاريخ بالنوم المديد، لكنه لا يكف عن دس الملح في جروح المتحاربين.
الصورة استثنائية. كم يتشابهان وكم يفترقان.
حين ولد رجب طيب أردوغان في اسطنبول في 1954، كان فلاديمير بوتين ولد قبل عامين في سان بطرسبورغ. إنها قصة رجلين تحمل أيضاً بصمات مدينتين.
ولد بوتين في عائلة فقيرة. نجا والداه من حصار ليننغراد. جذوره عادية جداً. ويكن وداً عميقاً لجده الذي كان يعمل طباخاً لدى فلاديمير لينين وجوزف ستالين.
كانت نتائجه المدرسية سيئة. لكنه أحب باكراً الرياضات التي توفر فرص الدفاع عن النفس. أتقن السامبو وذهب في الجودو إلى «الحزام الأسود». في هذا الوقت، كان أردوغان مولعاً بكرة القدم، وكاد يحترف لولا اضطراره إلى بيع البطيخ في شوارع اسطنبول لمساعدة عائلته الفقيرة.
سلك بوتين طريق الشبيبة الشيوعية وتحقق حلمه بالانضواء في قلعة الـ»كي جي بي». انضوى تحت عباءة يوري اندروبوف. سلك أردوغان طريق المسجد واعتنق إسلاماً بنكهة «إخوانية». انضوى تحت عباءة نجم الدين اربكان. تدرب الأول على إخفاء مقاصده. تميز الثاني بحماسته والبوح بمشاعره. ارتدى الأول ثياب الجاسوس ولبس الثاني ثياب الخطيب والداعية. كان ذلك في 1998. ذهبت الخطابة بأردوغان بعيداً. استعار من شاعر بضع أبيات: «مساجدنا ثكناتنا، قبابنا خوذاتنا، مآذننا حرابنا، والمصلون جنودنا». عاقبته جمهورية أتاتورك بالسجن عشرة أشهر.
رجلان من بلدين يفصلهما نهر من الدم تدفق على امتداد مئات السنين. رجلان من قاموسين وإرثين يجمعهما جوع عميق إلى الإمساك بالسلطة والقرار وتطويع المخالفين.
رجلان مجروحان. كان الكولونيل بوتين يعيش باسم مستعار في درسدن في ألمانيا الشرقية ويزعم أنه مترجم. كانت وظيفته الفعلية اصطياد جواسيس واستقطاب جواسيس. فجأةً انهار جدار برلين. أحرق ما في حوزته من الأوراق وعاد إلى روسيا. وهناك سيشهد انهيار الاتحاد السوفياتي ولن يغفر أبداً لمن تسبب أو احتفل.
وفتى اسطنبول مجروح أيضاً. علمانية أتاتورك وجنرالاته لا تشبهه ولا يطيقها. سيطل على الجنرالات آتياً من صناديق الاقتراع. سيرقص معهم وسيكمن وسيناور. محاولة الانقلاب الأخيرة كانت هدية من السماء. أعطته فرصة تصفية الحسابات. انتقل من تقليم الأظافر إلى قطع الأصابع. مجروح أيضاً لأنه يقرع الباب الأوروبي فيشترطون عليه تغيير قاموسه ورقصته وقراءته للعالم. كأنهم ينسون أن مدافع السلطنة دوت ذات يوم على مشارف فيينا.
في معهد الـ «كي جي بي» تعلم بوتين أشياء كثيرة. الكتابة بالحبر السري. والتخلص من معارض أو منشق. وفن التضليل واتهام الخصم بما ليس فيه. أستاذ في التضليل. ناور كثيراً حتى جاءت ساعة تدخله العسكري في سورية. لا أحد يعرف حتى الساعة رأيه الحقيقي بمستقبل الرئيس بشار الأسد. ملاكم خبيث. لاكم أميركا والغرب وأوروبا وها هو يفتح أبوابه للملاكم التركي الذي ندم على ضربة الطائرة.
الملاكم التركي لا تعوزه القدرة على التسديد. قد لا يكون بريئاً من انقلاب حلب الذي حسن موقعه في موعد البارحة. لكن القيصر ليس طيب القلب. يعرف أن الزائر الذي يتحدث اليوم عن «صديقي بوتين» تحدث طويلاً في السابق عن «صديقي بشار»، وهو اليوم يصر على رحيله. إنها عواطف الملاكمين المجروحين. كل غرام آخره انتقام.
خرج أردوغان مجروحاً من محاولة الانقلاب. يتلاعب الآن بملامح تركيا العلمانية المستقرة منذ عقود. يتبرم بقبعتها الأطلسية وأنانية الاتحاد الأوروبي ويوزع الشكوك في صدق الحليف الأميركي. نتائجه في الإقليم ليست باهرة. إيران تقيم على حدود بلاده في أكثر من جهة. و «الربيع الإخواني» تبخر.
لدى بوتين ما يكسبه من غضب الملاكم التركي. لكن القيصر يعرف قصة الحسابات الطويلة. لن يلاكم إلى الابد. حين يستكمل جمع الأوراق سيذهب لاستثمارها في تحسين شروط الرقص مع أميركا. وربما استنتج أردوغان نفسه أن لا خيار أمامه غير تحسين شروط الرقص.
كانت الصورة استثنائية فعلاً. تابعها كثيرون. أغلب الظن أن اسم الأسد تردد كثيراً في اللقاء بين صديقه الحالي وصديقه السابق.