لا شك أن الخلل الذي ضرب المعادلة الوطنية غداة التسوية الرئاسية، وما سبقها في فترة الفراغ القاتل في رئاسة الجمهورية، كان من الأسباب المباشرة للإنهيار الإقتصادي والمالي الحالي.
لا أحد يستطيع الإنكار أن معدلات الفساد في السنوات الثلاث الأخيرة بلغت مستويات غير مسبوقة، بدافع من الجشع المتمادي في الهيمنة على مقدرات السلطة، والسيطرة على القرار السياسي، والتسابق في تكديس الثروات عبر الصفقات والسمسرات المشبوهة.
وأدّى التنافس المحموم في المحاصصات وعلى مغانم النفوذ، إلى إهمال واقع الخلل في المعادلة الداخلية، على خلفية الإحباط السنّي الذي بدأ يظهر منذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وأحداث أيار ٢٠٠٨، والإعتصامات في قلب بيروت، وبلغ ذروته بعد التسوية الرئاسية وما تلاها من تجاوزات وتنازلات على حساب التوازنات الطائفية في الإدارات العامة، وما أصاب الحصة السنّية من ضمور وتهميش.
مشاعر الإحباط والغبن تضاعفت في الشارع السنّي بعد تشكيل الحكومة الراهنة، واختيار رئيس الحكومة من خارج دائرة القرار في الطائفة، فضلاً عن ضعف التمثيل الوزاري السني بالمقارنة مع الطوائف الأخرى.
وفي خضم حالة الإرباك وإفتقاد المرجعيات، برز في الأشهر الأخيرة «لقاء رؤساء الحكومات»، في سلسلة من المواقف، تفاوتت التقييمات حولها، ولكنها حاولت إستعادة موقع المرجعية في القرار السياسي السنّي، بعد فترة من التضعضع والضياع.
ولعل المؤشرات المتداولة حول مقاطعة رؤساء الحكومات للقاء بعبدا الخميس المقبل، تكون خطوة أولى في تصحيح الخلل في المعادلة الداخلية، وعودة الوعي والحكمة إلى الرؤوس الحامية في السلطة، والتخلي عن محاولات الهيمنة بالجملة على المواقع السنّية في الحكم، وفي الإدارات العامة.
والمهم في موقف الرؤساء الأربعة أن منطلقاته وحيثياته وطنية بإمتياز، وبعيدة عن الحسابات الطائفية والمذهبية الضيقة، وهو على تماس مباشر مع مواقف قيادات في الطوائف الأخرى، في مسعى للتوصل إلى موقف وطني شامل، يُعيد الوهج للخيارات الوطنية، ويؤسس لتحرك واسع من أجل المساهمة الفعّالة في عملية الإنقاذ الاقتصادي والمالي، في ظل هذا التخبط والضياع المسيطر على مواقع القرار في السلطة.
ثمة قناعة لدى القيادات السياسية المعارضة أن إجتماع بعبدا لن يكون مناسبة للحوار الحقيقي الذي يحتاجه البلد الواقع تحت ضغوط أكبر الأزمات المصيرية في تاريخه الإستقلالي، وبالتالي فإن المشاركين في هذا الاجتماع سيكونون أشبه بشهود زور لأداء العهد السياسي وللخطة الإقتصادية التي وضعتها الحكومة، وتثير المزيد من الخلافات بين مكونات الحكومة نفسها من جهة، وبين الحكومة ومجلس النواب من جهة ثانية.
ومهما قيل عن الأجواء التي ستسود لقاء الخميس، فإن نتيجته ستحمل، بشكل أو بآخر، صك براءة للحكومة والسلطة بكاملها، من الأخطاء المدمرة التي ترتكبها بمعالجة الوضع المالي والنقدي الخانق، والمراوحة الراهنة للمفاوضات مع صندوق النقد الدولي، فضلاً عن الفشل في حسم أيّ من الملفات الأساسية وإتخاذ القرارات الحاسمة بشأنها، وفي مقدمتها ملف الكهرباء، الذي إرتكبت به الحكومة فضيحة مجللة، عندما تراجع مجلس الوزراء في بعبدا عن القرار الذي إتخذه في السراي بإستبعاد معمل سلعاتا في المرحلة الأولى!
أما القول أن مناخات الفتنة التي ظهرت بشكل مُلتبس، ومثير للشبهات، يوم السبت الساخن وما سبقه من أحداث الخميس المضطرب، هي التي دفعت رئيس الجمهورية للدعوة إلى لقاء بعبدا الحواري، فالواقع أن القيادات السياسية المعنية بأحداث عين الرمانة وكورنيش المزرعة، وعمليات التخريب في قلب بيروت، قد بادرت إلى تطويق رياح هذه الأحداث السامة، وعقدت سلسلة لقاءات فيما بينها أشاعت الكثير من أجواء التهدئة والإطمئنان، تلاشت معها مشاعر الإحتقان والتوتر.
التطور الدراماتيكي المستمر للأوضاع في البلد، يتطلب خطة إنقاذية جدية وواقعية، بعيدة عن تنظير جيوش المستشارين وخلافاتهم، وإدارة حديدية وحاسمة في إتخاذ القرار، والحد من الصفقات وعمليات الفساد الجارية حتى الآن، بدءاً من الكهرباء وإستعادة القرار في هذا الملف من التيار الباسيلي، وصولاً إلى حسم الملف المالي وتحديد مسار الخروج من النفق الخانق، قبل الوصول إلى خط اللاعودة!