IMLebanon

«قد الحال»

 

اتصل قائلاً: وليد يرغب في أن يستشيرك طالباً نصيحة. المُتصل صديقٌ قديم، ترقى علاقتنا إلى أيام الدراسة الثانوية في معهد الكرمليين في طرابلس، واستمرت إلى اليوم. صديقي هذا «أحواله على قدّه»، أي أنها «مستورة» كما نقول. تزوج بعد الأربعين، ورزقه اللّه ولداً وحيداً، هو وليد، فوفّر له تعليماً عالياً في كليّة الهندسة في جامعة كُبرى، ما كبّده أموالاًً طائلة استدانها ليُنفقها عليه. لأن وضعه، كما قلنا، على قد الحال. وباتت حياتهم مستورة، لأن الوالد الذي كان مُدرساً في القطاع التعليمي العام تقاعد… إلى أن حلّ بالعملة اللبنانية ما نعرف ونُعاني من انهيارها. ضاقت سُبل العيش أمامهم إلى أن تلقّى وليد أخيراً عرضاً لوظيفةٍ في الخارج مقابل مرتّب معقول. وها هو حائرٌ يطلب من صديق والده نُصحاً.

 

هل يلتحق بالوظيفة خارج لبنان تاركاً والده الذي تقدّم به العمر ووالدته المُصابة بداءٍ عُضال وحدهما في ظروفٍ دقيقة، مالياً وصحياً، وهو لن يتمكن من دعمهما ومساعدتهما إلا بعد بضعة أشهر، إذ عليه أن يستأجر منزلاً في الغربة ويستقرض من المؤسسة التي سيلتحق بها دفعة أولى من الإيجار مقدّماً بما يوازي ستة أشهر؟ أم هل يبقى هنا، قريباً من والديه مُكتفياً بمرتّبه الذي هو بالليرة اللبنانية وقد فقد الكثير من قيمته؟ علماً أن التعويض الشهري الذي يتقاضاه الوالد المتقاعد يكاد لا يفي بأدنى ضرورات الحياة؟!.

 

لن أدخل في الناحية الانسانية من جوابي، وما تخلل الحوار من محطاتٍ عاطفية مؤثرة أظهرها وليد تجاه والديه(…). فقد أردت أن أُذكّر بتلك الأيام الخوالي عندما كان المرتّب الشهري لا يتجاوز خمسماية ليرة (يومها كانت توازي ٢٠٠ دولار) يكفي لحياةٍ معيشية آمنة للطبقة المتوسطة، إذ كان يؤمن أقساط إيجار السكن الشهري، والسيارة، والثلاجة، والغسالة، وفرن الغاز.

 

طبعاً، هكذا كان حتى حرب السنتَين.

 

صحيح أن هذه الأمور تبدّلت في العالم قاطبةً جراء التضخم ونمط حياة الاستهلاك المُتصاعد، ولكنها عندنا تدهورت في انهيارٍ مروّع قضى على مقوّمات صمود اللبنانيين، وليس ثمة ما يُشير إلى أننا مُقبلون على قيامة، بل لسنا قادرين حتى على الانعاش في غرفة العناية الفائقة.

 

هجرة الأدمغة من لبنان ليست جديدة، وكذلك هجرة المُتخرجين الجدد وحتى الحرفيين وأصحاب المهارة والكفاءة عموماً. ولكن الحال التي بلغناها باتت تتجاوز كل منطقٍ وكل عقلٍ وكل مفهوم.

 

ويؤسفني، بل يؤلمني، أن نصيحتي كانت: اتّكل على اللّه يا وليد وتوجّه إلى حيث باب رزقك، وكان اللّه في عون والدَيك إلى أن تتمكن من القيام بواجبك نحوهما. واللّه الموفّق.