في زمن القحط… أيّ خبز نأكل؟
ليس بالخبز وحده يعيش الإنسان. هذا صحيح، لكن، في المقولات الشعبية: الخبز حتى الحاف بِعرّض الكتاف. فالإنسان، الذي يأكل خبزه من عرق جبينه، لا يستطيع أن يعيش بلا خبز. لكن، هل يكفي أن نعطي خبزنا للخباز حتى لو أكل نصفه؟ إنهم يأكلون عمرنا ومالنا ومستقبل أطفالنا ويُطعموننا خبزاً يثير الإرتياب. فماذا يحصل في أفراننا؟ وأيّ خبز نأكل؟ معفّن؟ فاقد الصلاحية؟ يبيت طحينه مع الجرذان؟ بصدقٍ، حتّى طعم الخبز في هذا الزمان السيّئ بات «يقطع النفس».من أفران «وودن بيكري» عادت قصّة إبريق زيت الرغيف المخبوز بطحين مشوب بألفِ حكاية وحكاية. وفي ما قيل وتردّد «رسمياً»: ضُبط – بالجرم المشهود- طحين منتهي الصلاحية في مخزن الفرن في زحلة فأقفل بالشمع الأحمر. القضاء تدخّل. خبر جديد: أمن الدولة صادر 100 طن من القمح من مخازن أفران (…). يبدو أنها إشاعة. اللبنانيون يرغبون دائماً في أن يتسلّوا حتى في لقمة عيشهم. لكن، هل نضع أيدينا في المياه الباردة ما دام القضاء قد تدخّل؟
هي ليست المرة الأولى التي تنتشر فيها أخبار كهذه. قبل أقلّ من عامين، أوقفت دورية لأمن الدولة في زحلة (أيضاً) صاحب أفران شمسين في لبنان بعد مداهمتها مخزن الخبز هناك وفيه كمية كبيرة من ربطات الخبز جرى التلاعب بوزنها. وقبل ذلك، سرى خبر عن تصدير طحين مدعوم بدل بيعه خبزاً الى شعبٍ بات يعيش على البعل وفتات الخبز. وقبل ذلك، في العام 2014- ولا بُدّ تتذكّرون- حدّثنا وائل أبو فاعور «أن اللبناني يتقاسم حبّة القمح مع الجرذان والحمام». كان يتحدث عن أهراءات مرفأ بيروت. طار المرفأ وطارت الأهراءات. وبقي اللاعبون بخبزِنا يبتكرون طرقاً تدفعنا دفعاً الى القعر. وإن ننسَ فلن ننسى فضيحة هبة الطحين العراقي الذي خُزّن تحت مدرجات المدينة الرياضية في لبنان في ظروف سيئة.
ماذا يحصل في لقمة خبزنا؟
قبل أفران «وودن بيكري» بكثير، كانت هناك مشكلة وبعدها- نراهن- ستبقى هناك مشاكل. فدولتنا، من وزارة الاقتصاد- صعوداً ونزولاً- تراهن على إلهائِنا حين تشاء وتراهن على طمس الحقائق حين تشاء. لكن، ما دام الموضوع فتح في العلن- قصداً أو سهواً- فلنبحث فيه. ماذا يحصل؟ سؤالٌ طرحناه على رئيس نقابة عمال الأفران والمخابز شحادة المصري. اخترناه بالذات لأننا نعرف أنه «نقيب الأوادم». فهل سمع بما سمعناه في اليومين الماضيين عن طحينٍ منتهي الصلاحية؟ يجيب: «المسألة قيد التحقيق لكن، بصفتي، أعرف أن الطحين قد يفسد على أثر التخزين. لهذا قد يكون فسُد أثناء التخزين ولم تشتره الأفران المتهمة فاسداً».
الحادثة وقعت. والمطلوب تفعيل أدوات الرقابة. لكن، ليس كل مطلوب موجوداً. نعود لنكرر السؤال: حضرة نقيب عمال الأفران والمخابز شحادة المصري، بعيداً عن ملف الطحين الفاسد لماذا ما عاد اللبنانيون يأكلون «لقمة خبز» شهية؟ يجيب: «هناك أكثر من سبب. نوعية الطحين قد تكون سيئة. كما أن «معلم العجين» يلعب دوراً. وأيضاً كمية السكر وسرعة جنزير الخبز».
نحن في لبنان، لا نستورد الطحين بل القمح، لأن الطحين غالباً ما كان يفسد أثناء الطريق ويقول المصري: «نحن نستورد عن طريق البحر من أوكرانيا وروسيا بنسبة تزيد عن 70 في المئة ويستغرق وصول الشحنة ما لا يقلّ عن سبعة عشر يوماً. ومعلوم أن الطحين الآتي عبر البحر يتعرّض الى رطوبة تلد حشرات لهذا من المفضّل استيراد القمح لا الطحين» ويستطرد «يستهلك لبنان 22 ألفاً و500 طن شهرياً من الطحين المدعوم. وينتج عن طنّ القمح الواحد، ليُصبح طحيناً، نحو 122 كيلو من النخالة، تستخدم عادة في تصنيع الخبز الأسمر أو خبز الصاج والتنور».
ثمة مسيرة طويلة يعبرها الرغيف قبل أن يُصبح على مائدتنا. واللعب برغيف الفقير قد يكون في أي مرحلة من مراحل الاستيراد ثم التصنيع ثم التوزيع. زنة ربطة الخبز تتغير دورياً.
حتى لو لم يكن الخبز الذي نتناوله منتهي الصلاحية أو معفّناً أو فاسداً غير أن ما نتناوله منذ أشهر بات مختلفاً طعماً وشكلاً. الخبز بات «يعلك» ويتفتّت بسهولة ويفسد بسرعة. فهل لذلك أسباب؟ يجيب المصري: «سماكة الرغيف لها تأثير. قطره أيضاً. ثمة أرغفة نشتريها بلونٍ أكثر بياضاً بسبب تسريع العمال جنزير الفرن تخفيفاً لاستهلاك الوقود مدة أطول. وهناك من يقللون من كمية السكر في العجين ما يجعل الخبز يتفتت بسهولة. كل ذلك يحصل قصداً لا سهواً في غياب الرقابة التي لا تأتي إلا مواسم».
نقيب عمال الأفران والمخابز يأبى اتهام «معلم العجين» بما يحصل ويقول: «المعلّم مرتهن لصاحب الفرن فإذا قال له إفعل هذا يفعل. أصحاب الأفران يتذمّرون منذ عشرات السنين من أن قطاعهم غير مربح لكننا نراهم يفتتحون فروعاً في كل مكان. فكيف لقطاعٍ خاسر أن يكبر؟ ويستطرد: أيام زمان كنا نشتري ربطة الخبز زنة ألف غرام فيضعها الفران على الميزان أمامنا أما اليوم فكل واحد يبيع «ع ذوقه». ثمة تلاعب في الوزن، إذ كان كل 15 كيلو طحيناً تعطي 150 ربطة، وهناك أفران تحاول تخفيف الزنة قليلاً لتصبح 165 ربطة. ثمة تلاعب مستمرّ».
الأفضلية للأجنبيّ
25 في المئة من عمال الأفران لبنانيون والبقية أجانب. البنغلادشيون، الذين كانوا يعملون من الفجر الى النجر، غادروا. في فرن الجبل مثلاً، بحسب النقيب المصري، استعانوا بثلاثين عاملاً لبنانياً وتمّ تدريبهم. أصحاب الأفران الآخرون لا يعجبهم ذلك كثيراً لأنهم لا يريدون تسجيل العمال في الضمان الاجتماعي. إنهم يفضّلون الأجنبي. لذلك، طالبنا كثيراً بتطبيق قانون العمل على الجميع، لبنانيين وغير لبنانيين، مع العلم أن العامل الأجنبي الذي يسجل في الضمان لا يستفيد. ومن شأن ذلك إفادة صندوق الضمان».
يستفيد 193 فرناً في لبنان من الطحين المدعوم. هناك أفران كبيرة مثل «مولان دور» و»شمسين» و»وودن بيكري» و»السلطان»… وبقدر ما يعمل الفرن تكون حصته من الطحين المدعوم. ويقول نقيب عمال المخابز والأفران: «منذ أسبوعين، حين ارتفع سعر ربطة الخبز من 47 ألفاً الى 49 ألفاً أصبح القمح ينزل مباشرة من الباخرة الى الشاحنات وصولاً الى المطاحن. وكل طنّ من القمح يكلفنا عشرة دولارات لنقله. لذلك نطالب بوجود مخازن كبيرة علماً أن آخر أهراء اكتشفوه في البقاع قادر أن يسع كمية كبيرة شرط أن تتحرك الدولة في هذا الإتجاه».
حدثوا ولا حرج عن الغذاء الفاسد. والمواطن هو من يأكل الضرب ويشارك أحياناً فيه. ثمة باتيسري في شارع مار الياس يبيع كعكة الكنافة بخمسين ألف ليرة والى جانبه باتيسري آخر يبيعها بمئتي وخمسين ألفاً. وثمة لحام يبيع كيلو لحم العجل بثمانمئة ألف ليرة وهناك آخر يبيعه بأربعمئة ألف ليرة. فهل تراقب أجهزة الدولة ما يحصل؟
لا سلامة غذاء في لبنان. ولا أحد يعرف الكمية الحقيقية من الطحين التي يحتفظ بها التجار في مخازنهم. في العلن، يمكن لنقيب عمال الأفران أن يقول «هناك نحو ستين ألف طن والكمية تكفي لبنان مدة شهرين. لكن، في الواقع قد تختلف الكمية كثيراً لأن هناك تجّاراً يخزنون كميات لا أحد يعرف عنها شيئاً».
ما حصل في الأمس قد يكون سببه تخزين كميات من الطحين قديمة، فسدت، وليس بالضروري أنها كمية فاسدة استقدمت حديثاً. لكن، في الحالتين، يستحق الأمر أكثر من سؤال: فلماذا خُزنت حتى فسدت؟ وإذا كانت مستوردة حديثاً فمن أين استقدمت فاسدة؟
ثمة مصلحة مستهلك في وزارة الاقتصاد. وهناك جمعية حماية المستهلك «بطلها» زهير برو. وثمة كثيرون يتحدثون عن مستهلكين وفاسدين وتجار… زهير برو كان شاهداً على عشرات ملفات القمح الفاسد وهو العارف «أن فساد القمح وسوء تخزينه وتوضيبه ونقله يؤدي الى انتشار سموم فطرية تنمو وتتكاثر في الطحين». فهل ما سمعنا به في اليومين الماضيين يندرج في هذه الخانة؟ سنحاول الوثوق بالقضاء لعلّنا نسمع جواباً شافياً.