Site icon IMLebanon

الرغيف

 

 

الرغيف، منذ التكوين مثلما كان القاسم المشترك في حياة الأمـم كان أيضاً السبب الأبرز للحروب بين الدول والشعوب.

حولَـهُ، يـدور النزاع البشري: تأكلُـهُ أنتَ، أوْ آكلُـه أنا، أوْ نأكلُـهُ أنا وأنت.

وحدَها الروحانية الكهنوتية تقول: أنا أحصل على الرغيف، لا لأنتزعَـهُ منك بل لأعطيك إياه.

«والرغيف»، هو عنوان الروايـة الرائعة التي ألَّفهـا الأديب اللبناني: توفيق يوسف عـواد، والتي تـدور أحداثها خلال الحرب العالمية الأولى، حـول مشاهد الجـوع والهلَـع والقتل والمعاناة والنضال حتى الإستشهاد ضـدّ الإحتلال التركي، ومِـنْ أبطالها، إمـرأةٌ تُسجَنُ وتتشرّد مع إبنهـا الوحيد، ثـمّ تسقط ميتَـةً من الجـوع، وهي تعضّ بأسنانها على جثّـة رجـلٍ ميْـت.

وهكذا، يـروي الأديب اللبناني سليمان ضاهر مشاهداته عن تلك الحرب فيقول: «يتساقط ضحايا الجـوع على الطرق ويزاحم بعضهم بعضاً على جِـيَفِ الحيوانات لاقتطاع قطعة منها، مثلما تزاحموا على لحـوم البشر..»

تلك الحـرب فرضت على بعض الفلاسفة أن يكونوا نباتيّيـن لا يأكلون اللحم لأنهم يتصوّرون أن الإنسان يمكن أنْ يأكل الإنسان.

نذكر تلك الوقائع ونحن نشهد الحـال المأساوية التي وصـل إليها شعب لبنان العظيم، وهو يخوض الحرب مع نفسه ومع غيـره للإستحصال على الرغيف، وكأنّما ضحايا الحكم عندنا شبيهة بضحايا الحرب العالمية الأولى.. ولـم يبـقَ إلاّ أنْ يعـضَّ الجياع عند الموت بأسنانهم على الجُثـث.

لـمْ يقـل المسيح: «ليس بالخبز يحيا الإنسان» بـل قال: ليس بالخبز «وحـدَه» يحيا الإنسان، وانّ أخطر ما يواجـه شعب لبنان اليوم أنـه لـم يعد عنده إلاَ الخبـز وحده، وهذا الخبز وحده يُخبـز على نـارِ جهنّم.

عبـرَ كلّ النزاعات والحروب التي شهدها لبنان في السنوات الخوالي، وبالرغم من كـلّ مراحل القتال والإقتتال التي تخضّبت بالـدم، كان عندنا غـذاء وكهرباء ودواء وليـرة وخبـز.

واليوم، كأنّـهُ كُتِبَ علينا ما كتبتْـهُ صحيفة «المونتور» في أعقاب الثورة الفرنسيّة حين تقول: «كان الـدم يسيل ولم نفتقد الخبـز، واليوم لا يسيل الـدم والخبز مفقود، أيجبُ أنْ يسيل الـدم لنحصل على الخبـز..؟»

ثمـة أنظمةٌ تقتل الشعب بتفخيخ المتفجرات، وأنظمة أخـرى تقتل الشعب بالرغيف المفخّخ، ولا يزال هناك من يعتلون المنابر ابتهاجاً بالإنهيارات على أنها انتصارات، وكأنّ لبنان حقّاً أصبح أفضل مما كان، ولم يتورّع الخليفة «المنتصر باللـه» من أنْ ينصّب نفسه بطلاً ويعلّق لنفسِه وساماً على صدره بنفسه.

يعلّمنا التاريخ أنّ معظم الثورات الشعبية تندلع من نزيف وجـع الجـوع، وحيـنَ تـرى جماعة تحلم بطَيـفِ الرغيف، وجماعة أخـرى تبتلع العسل بملاعق الذهب.

يقول الفيلسوف الفرنسي «جـان بودين»: «إنّ الجماعة مثل الحيوان إذا ما شعرتْ بأنّها مهدّدة في حياتها، فإنّها ستدافع عن نفسها بأيّ وسيلة كانت، إنْ لم يكن بالقانون فبالثورة المادية والعنف».

والإنسان الذي يشبّهُـه جـان جاك روسو: «بالحيوان السياسي» يصبح هدفاً لثورة حيوانية عندما يتحـوّل إلى «حيوانٍ حيواني».

إذا كانت ثـورة السابع عشر من تشرين قد تفرّقَتْ رياحها، فإنها إذا اندلعتْ قبل تشرين الآتي مع ثـورة الجياع العاصفة، ألاَ تخافون من أنْ تنقلب معها العروش رأساً على عقِـب، فتصبح التيجان أحذيـةً والأحذيـةُ تيجاناً…؟