يروي معاصرو الحرب الكونية الأولى في كتب أصدروها عن أهوالها والكوارث التي حلت باللبنانيين من جرائها، خصوصاً بعد غزوة الجراد في العام 1915، وما خلّفته من مجاعة قضت على مئتي ألف شخص معظمهم في جبل لبنان. لم تكن هذه الحشرة بالطبع هي المسؤولة الوحيدة عن هذه الفاجعة، بل أيضاً الحصار المتبادل للجيش العثماني والأسطول الفرنسي بمؤازرة نظيره الإنكليزي، الذي وضع السكان بين المطرقة والسندان، حاملاً إليهم الهلاك والموت الزؤام.
بعض هذه الكتب تحدّث واضعوها عن طبقة من الناس، إقتاتَت من آلام المواطنين وجوعهم وحاجتهم إلى الطحين والمواد الغذائية الأساسية. فعمدت إلى شراء أرزاقهم الواسعة، ودورهم، مقابل أكياس من الدقيق الرديء النوعية، المخلوط بالتراب، والنشارة. وفي بعض الأحيان كانوا يستعبدون الناس ويدفعون بهم إلى أشغال شاقة في أرزاقهم، ومنازلهم.
وهناك أخبار موثّقة عن إقدام بعض قساة القلوب على استغلال فتيات بعمر الورود واغتصابهنّ، بعدما خيّروهنّ بين الموت جوعاً على قارعة الطرق، أو تقديم أغلى ما عندهنّ طبقاً برسم الإفتراس، على يد مَن انعدمت ضمائرهم وضحلت أخلاقهم.
من هؤلاء الذين أثروا بهذه الوسيلة المتوحشة، رجالات من عائلات معروفة في جبل لبنان، أصابت غنى فاحشاً فاق التصوّر، وتضاعفت عقاراتهم بفِعل الإستيلاء على أملاك مَن ضَحّوا بما عندهم لدفع غائلة المجاعة. إلّا أنّ الله لا يهمل، ولا يسكت عن ظلم، فرزق بعض هؤلاء بذرية غير سويّة عقلياً وأخلاقياً، فكأنه – استغفره تعالى – أراد ألّا تمر محنة المجاعة من دون عبرة، ليؤكد أن ظلم الإنسان لأخيه الإنسان هو من الكبائر.
على أن أحد كبار تجار الحبوب من سكان العاصمة بيروت، وكبار وجهائها، ممّن امتلك قصراً منيفاً، بديع التصميم والعمارة في حي تَسمّى بإسم عائلته، عهدت اليه السلطات العثمانية توزيع الحبوب وبيعها ضمن هامش الأرباح المنصوص عنها قانوناً، قام بتخزين القمح، في مستودعات داخل العاصمة، وكان يبيعه بأسعار مرتفعة في السوق السوداء، فيما كان يوزّع القليل منه على تجار المفرّق لإزالة شبهة الإحتكار. ولم يكن هؤلاء أرحَم منه وأرأف. كان الجنرالات الألمان والعثمانيون يقصدون قصر هذا الوجيه حيث يُحيون السهرات، وتصدح الموسيقى، وتدور حلقات الرقص تحت أنوار ثريات ” البكارا” المتلالئة، فيما الناس أمام باب قصره يتضورون جوعاً، ويفترشون الأرض متوسّلين بصوت تتقطّع له نياط القلب: “حسنة لله، بَدنا قطعة خبز… رح نموت جوع”. وكان حوذي الوجيه عينه يدفعهم بقسوة كلما حاولوا الإقتراب من البوابة، ويلسع وجوهم، وأكتافهم، وظهورهم بسوطه، وكأنهم أحصنة “البك”، لا كائنات بشرية، يعاونه في ذلك حراس القصر، وهم من الفقراء، لكنهم استأمنوا على بطونهم من الجوع، بما يخلّفه له معلمهم من فتات موائده.
إنتهت الحرب. دهمت القوات الفرنسية غداتها مستودعات هذا الثري، ووهبتها للصليب الأحمر، وهيئات الإغاثة، لِخَبزها وتوزيعها على الناس. واللافت أن الفرنسيين صادروا في أحد هذه المستودعات 50 طناً من القمح، وقد نَخره السوس. لقد فضّل عديم الضمير هذا أن يكون القمح طعماً للسوس، بدلاً من أخيه الانسان. وهو الذي كان يواظِب على حضور القداسات، وعدم تفويت أي مناسبة دينية، ويتقيّد بفروضها والأصوام. وكأنه لا يعلم (وهو المثقف) أنّ المسيح هو مسيح المستضعفين، البائسين، الجائعين، المضطهدين، الذي قال فيهم انهم الأقرب إلى ملكوت الله.
ومرة أخرى، ولأنّ الله لا يهمل، أخذته، وهو في النَزع الأخير، على سريره رجفة مصحوبة بالعرق الغزير يتصبّب من جبهته، وكل أنحاء جسمه، وشرع يصرخ بصوت عال رافعاً إحدى يديه: “أبعدوا هؤلاء الناس عني، لا تدعوهم يقتربون مني… قولوا لهم ان ليس عندي حبة قمح… فليغربوا… فليغربوا…”. وعندما قيل له: “لا يوجد أحد من هؤلاء في الغرفة”، كان يجيب: “بلى… بلى… إنهم هنا، وهم يتقدمون لخنقي”. إنه شبح الضحية تراءى لهذا الوجيه قبل أن يمضي إلى الديّان لتأدية الحساب.
هذا الشخص لم تتحقق أمنيته في أن يرزقه الله صبياً، تستمر معه ذريته.
دُفن في مقبرة فخمة، رخامية، تحوطها تماثيل الملائكة المنحوتة بإزميل فنان إيطالي. لكن موته حصل قبل إعلان وفاته بزمن بعيد. بعدما أصبح مُزدَرى في عين الله من اللحظة التي أمسك فيها لقمة العيش عن أخيه الإنسان.
وثمّة وجهاء بَيارتة سلكوا الطريق إيّاه، وإن بدرجة أقل قسوة، وخفر أكثر، فلم يسهموا بالقدر المطلوب في رفع الضائقة عن مواطنيهم، عملاً بالآية الكريمة: “ألم يجدك يتيماً فآوى، وعائلاً فأغنى، وضالاً فهدى. فأما اليتيم فلا تقهر، وأما السائل فلا تنهر، وأما بنعمة ربك فحدّث”.
في لبنان اليوم ما يزيد قليلاً على الإثنين في المئة، من كل الطوائف، وفي كل المناطق ممّن يعيشون في بطر، جاحدين نعمة الله عليهم، ولا يعترفون بوجود أزمة، وكأنهم من كوكب آخر. كوكب التخمة التي زادت عن حدها.
أكتب هذه السطور متوجّهاً إلى المحتكرين، مانِعي القوت والدواء، والطبابة والإستشفاء، والتعليم، والوقود، وكل مستلزمات الحياة عن اللبنانيين الذين وقعوا ضحية المصارف وتدابيرها الجائرة، وسياساتها المدمرة لهم، وعجز الدولة، وكأنّ ما جنوه من أرباح غير مشروعة لم يعد يكفيهم. كما أتوجّه إلى ذوي البطر الفاحش. لست أغالي، إنكم بسلوككم المعيب، تقتفون أثر هؤلاء الذين أصابوا “مجداً” باطلاً ومكلفاً من جوع الناس، ما زالوا يحصدون لعنته.
إلى هؤلاء،
إقرأوا جيداً… إقرأوا جيداً… وإن قرأتم فاتّعِظوا… لئلّا يلاحقكم غضب الله… فالله يُمهل ولا يُهمل.