بدأت المجموعات والأحزاب، المُعارضة للسلطة، والمُشاركة في التحركات الشعبية عملية تقييم المرحلة الماضية، تمهيداً لتحديد الخطوات المقبلة. أول مطلب حقّقته الانتفاضة الشعبية، جاء مبتوراً، فاستقالة الحكومة لم تقترن باتفاق على تشكيل حكومة «غير سياسية»، إلا أنّه أدّى إلى إعطاء الناس «فسحة راحة»
منذ بداية الحراك الشعبي، أجمع المعتصمون، مستقلين وأحزاباً ومجموعات، على مطلب استقالة الحكومة. حتى القوات اللبنانية، شريكة أمس في التسوية الرئاسية، خرجت من مجلس الوزراء بعدما انتفت المصلحة منه، وانضمت إلى ركب المُطالبين بإسقاط الحكومة. لذلك، كُثر يعتبرون أنفسهم «رعاة الإنجاز»، لا سيّما بعد أن أُضيفت عوامل سياسية عدّة، أدّت إلى إنتاج هذه الخاتمة / البداية. يبقى أنّ العنصر الأساس في كلّ ما حصل، «هو الضغط الشعبي، وعدم خروج الناس من الساحات، وإقفال الطرقات. الشارع أصبح جزءاً من المعادلة»، إنها الخلاصة التي يُعبّر عنها عددٌ من «مجموعات الحِراك» في تقييمهم للمرحلة الماضية. صحيح أنّ نشوة الفرح بتحقيق انتصار على السلطة، و«المفاجأة» من حجم المشاركة الشعبية، تُخوّنان أي «قراءة واقعية» لمُجريات الأحداث في الأسبوعين الماضيين، إلا أنّ أصواتاً «خجولة» بدأت تُسمع داخل مجموعات مُعينة، تُقيّم الانتفاضة بأنّها كانت «عظيمة على المستوى الشعبي، لا سيّما أن إيقاع الشارع وصموده هو الذي فرض نفسه على الجميع». هذه الأصوات تعتبر أيضاً أن «سقوط الحكومة لم يحدث إلا بعد تدخّل خليجي – أميركي مع الحريري، ونتيجة الأخطاء التي ارتكبها حزب الله وحركة أمل في الشارع، والتي أرفقت بعدم تأييد الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله لاستقالة الحكومة». من هنا، يبدو التقييم الموضوعي لما جرى، بعيداً عن رومانسية اللحظة، أساسياً لمعرفة تحديد الخطوات المقبلة وعدم فتور هِمَم الناس.
استقالة الحكومة، لم تكن الهدف الوحيد للانتفاضة الشعبية، بل كان دائماً يقترن مع طلب تشكيل حكومة تعدّدت تسمياتها بين التكنوقراط أو الأخصائيين أو مُصغّرة… المهم، بالنسبة للأكثرية، أن تكون خالية من جميع الأحزاب السياسية. ورغم أنّ الهدف لم يتحقّق كاملاً، إلا أن الضغط «تراجع» إفساحاً في المجال أمام الناس ليلتقطوا أنفاسهم. حتى ساعات المساء الأولى، لم تكن الحشود في ساحتَي الشهداء ورياض الصلح والباحة أمام مبنى اللعازارية، كبيرة. الخيم التي اعتدى عليها مناصرون لحركة أمل وحزب الله أول من أمس، بعضها أُعيد نصبه، والبعض الآخر لم يجد مكاناً له. الشخصيات البارزة من المجموعات / الأحزاب، أخذت استراحةً من الساحات. أما المعتصمون على الطرقات، فقد انسحبوا من مواقعهم، إما باتجاه وسط العاصمة أو طرابلس، وإما إلى بيوتهم بانتظار ساعة الحسم الثانية.
قد يعتبر البعض أنّ التراجع شعبياً، لا سيّما أنّه لم يتحقق إلا القليل القليل من المطالب، قد ينعكس سلباً على التحركات المقبلة. إلا أنّ الناشطة نعمت بدر الدين (برزت في الاعتصامات في النبطية، وتعمل مع «هيئة تنسيق الثورة» التي تأسست من مجموعات عدّة) تقول: «دعونا إلى فتح الطرقات، وطلبنا البقاء في الساحات، إفساحاً في المجال أمام تشكيل حكومة انتقالية في أسرع وقت، ولأنّه لدينا حسّ وطني وعرفنا أنّ مؤيدين لتيار المستقبل سيركبون الموجة، ويستغلون قطع الطرقات لمصلحتهم في مناطق عدّة». لا خوف لدى بدر الدين على الفترة المقبلة، مشيرة إلى أنه «تعبنا حتى أقنعنا البعض بفتح الطريق، الناس لا ثقة لديهم بالسلطة ويعرفون جيداً عن مناوراتها، ونعرف أنه توجد جهات سياسية وسفارات ستتدخل. نحن واعون ولدينا الجرأة لفضحهم، لذلك لن يكون صعباً أن يعود الناس إلى لشارع». هل يجب أن يحصل تنسيق ما في الفترة المقبلة؟ تُجيب بدر الدين، «طبعاً ولكن يوجد تردّد حول هذه النقطة، حتى لا تُخرق أي قيادة، ولكنّ التنسيق يحصل بشكل غير مباشر وبين بعض المجموعات».
بالنسبة إلى طارق عمّار (بيروت مدينتي)، «في الخطوة الثانية يجب أن يتغيّر نوع ومستوى التنسيق. الشارع قاد الثورة، حالياً نُحاول أن نقوم بعمل على مستوى التواصل ومحاولة تأطير المطالب». ما بعد استقالة الحكومة، التحدّي الجديد، «بدأ ترتيب خطوات تنفيذية لمعرفة ومراقبة كيفية تنفيذ مطالب الناس»، مع التشديد على أنّ أحداً «لا يطرح نفسه بديلاً». يُخبر عمّار أنّ كلّ مجموعة تبحث بالخطوات اللاحقة، وتطرحها في جلسات النقاش. الاختلاف في وجهات النظر يُناقَش، كما حصل في مسألة فتح الطرقات مثلاً. والاختلاف يطاول أيضاً المُهلة المُحددة لتشكيل حكومة جديدة، ففي وقت حدّدت «لحقّي»، مثلاً، يوم الجمعة موعداً للتصعيد، أصدر تجمّع «لبنان ينتفض – كسروان»، بياناً أعطى فيه مهلة أسبوعين، أما «مواطنون ومواطنات في دولة»، فلم تُحدّد إطاراً زمنياً. تمايز آخر هو في دعوة «لِحقي» إلى الإضراب العام بدءاً من اليوم، مقابل عدم حماسة الحزب الشيوعي لهذه الفكرة، ودعوة «وطني» لاعتصامين الجمعة والسبت أمام القصر الجمهوري ومقرّ الرئاسة الثانية في عين التينة، «لتأكيد أنّ مطالبنا موجهة ضدّ الكلّ، وممنوع الإطالة حتى تشكيل حكومة جديدة»، بحسب يحيى مولود («وطني» – طرابلس). ويُشير إلى أنّه «لم نُحقق كلّ شيء بالاستقالة، فالمطلب الأساس هو تشكيل حكومة مُصغّرة تُدير الأزمة. التراخي الشعبي مُبرّر بالنسبة لمولود، «فهو راحة قبل استكمال ما بدأنا. الجيل الجديد، يعتبر أن المعركة للحصول على حقوقه مُستمرة». وقد قرّرت مجموعة «لِحقّي» استكمالها بالإضراب العام «الهادف إلى الضغط لتشكيل حكومة مستقلة عن المنظومة الحاكمة بالاستناد إلى مبادئ الثورة». فتحقيق الأهداف بالنسبة إليها، لا يتمّ إلا من خلال «تصعيد التحركات في وجه السلطة، يُقابله تسهيل لتنقلات الناس لتأمين حاجاتهم اليومية، لا سيما أنّ هناك محاولات من بعض قوى السلطة لاستغلال هذه الظروف الاستثنائية لقطع الطرقات بعناوين ولأهداف لا تمت إلى ثورتنا بصلة».
بعد استقالة الحريري… الأولوية لحكومة غير سياسية تُشكّل بسرعة
يعتبر عضو قطاع الشباب والطلاب في الحزب الشيوعي، سمير سكيني، أنّ ما حققته الانتفاضة في الأسبوعين الماضيين «انتصار بعد أن استقالت الحكومة، وأدّى إلى بلبلة داخل الطبقة الحاكمة، ولكنّه غير كافٍ بهذه الطريقة». حالياً، ينتظر الحزب الشيوعي «الحكومة الانتقالية، وبناءً على ذلك نعرف كيف سنُكمل عملنا». التوجه في المرحلة المقبلة، هو «التركيز على المرافق العامة، ونعتقده مفيداً أكثر من إقفال طرقات، خاصة أنّ أحداً لم يعد قادراً على تحمّل القطع».
من جهته، يعتبر معن الأمين (مواطنون ومواطنات في دولة) أنّه كما نتيجة عجز السلطة عن إدارة البلد، نزل الناس إلى الشوارع، أيضاً «ساهمت ثلاثة أسباب في استقالة الحكومة: تصريح حاكم مصرف لبنان رياض سلامة عن الانهيار الوشيك، الهجوم على المتظاهرين بطريقة وحشية، قول الحريري إنّه وصل إلى حائط مسدود». طبيعي بعد تحقيق أول مطلب، أن يحصل تراخ «فنحن نتفهم أننا نتعاطى مع أشخاص يتعبون ولديهم أشغالهم». ولكن، يعتبر الأمين أنّ الاستقالة هي خطوة أولى، باتجاه الوصول إلى «تشكيل حكومة انتقالية مع صلاحيات تشريعية تدير المرحلة الانتقالية في مواجهة الأزمة الحادة، وصولاً إلى إرساء أسس دولة مدنية».
من ملف : الحريري يفاوض بالشارع