Site icon IMLebanon

كسر «القوقعة»كسر «القوقعة»

يخرج بطل رواية مصطفى خليفة «القوقعة» من سجن تدمر الرهيب ليكتشف انه يعيش في قوقعة وسجن أكبر. صديقه وسيم الذي افرج عنه بعد فترة، يصطدم باستحالة الحياة في «سورية الاسد» حيث يمنعه ضابط الامن الذي تزوج شقيقة وسيم قسراً وقهراً من زيارتها، فلا يجد السجين الخارج الى الحرية المفترضة معنى للإنعتاق غير إلقاء نفسه من بناء مرتفع لينهي حياته جسداً محطماً على اسفلت الشارع بعدما حطمت آلة القمع روحه وآماله وحقه البسيط في الحياة.

اليوم، استولت «داعش» على السجن الجحيمي وورد في الانباء انها افرجت عن سجناء لم يُعرف عددهم بدقة وقيل ان من بينهم من قضى هناك ثلاثة عقود ونيف، ومن جنسيات مختلفة. بعد رواية خليفة وغيرها من الشهادات التي دوّنها نزلاء سابقون في تدمر كفرج بيرقدار وياسين الحاج صالح وغيرهما، يصعب تقدير حجم الضرر الذي لحق بالمفرج عنهم، جسدياً ونفسياً. ويصعب أكثر تصور كيفية عودتهم الى عائلاتهم وقراهم ومدنهم، بعد الأهوال التي عانوا شخصياً منها وبعد الزلازل التي تضرب بلدهم منذ اكثر من أربعة أعوام.

السؤال أكبر من مصائر أفراد وقعوا بين أنياب وحش القمع الأسدي، ومن صعوبات سيواجهها كل واحد منهم ومن افراد عائلاتهم للتأقلم مع الظروف الجديدة خصوصا عند من انقطعت اخباره منذ اعوام، وفق اسلوب العقاب المتبع عند «الأمن» السوري باخفاء المعتقلين. السؤال الآن يتناول القوقعة الأكبر التي سيجد المفرج عنهم انفسهم فيها على النحو الذي وجده بطلا رواية مصطفى خليفة في القوقعة الكبيرة المسمّاة سورية الاسد.

هل يعتبر الانتقال من سجن بشار الاسد الى سجد «داعش» تحرراً؟ قد يقول قائل ان مجرد الخروج من وراء القضبان هو حرية وان من غير اللائق اخلاقياً الانتقاص من الانجاز الكبير المتمثل في نيل هؤلاء السجناء حرية ولو منقوصة وجزئية. وهذا جدال لن يصل الى نتيجة بسبب البون الشاسع في تفسير معنى الحرية عند من هم وراء الجدران ومن هم خارجها.

لكن قبل استيلاء «داعش» على السجن، يتعين الانتباه الى معناه في منظومة السلطة التي حكمت سورية ولبنان على امتداد عقود. كان السجن «دُرجْاً مهملاً» يركن النظام فيه من قرر التخلص منهم من دون ان يحدد موعداً لذلك. اشخاص لا مكان لهم في دولة البعث حيث «لا مكان الا للتقدم والاشتراكية»، على ما قال مؤسس النظام وعرّابه، فيما من يقبع في السجن لا تنطبق عليه المواصفات التي حددها الاسد الأب وأعوانه. انه الجحيم الارضي الذي يعد المقيمين فيه للجحيم الأخروي. جحيم يملك مفاتحيه قضاة عسكريون وضباط وجنود لا يعرفون للأخلاق وللشرف معنى.

وإذ خرج سجناء تدمر اليوم من زنزاناتهم الى سورية المدمرة (وعاد من قيل انهم لبنانيون ما زالوا احياء في تلك المقبرة)، فإن ما يحملونه الى القابعين خارج اسوار السجن أهم كثيراً مما يمكن أن يقدمه الحاصلون على حريتهم المفترضة خارجها. يحمل الأسرى المحررون تذكيراً بليغاً ليس بالمآسي الشخصية والجماعية التي اودت بهم الى غياهب تدمر وما يشبهه، بل بالاحرى بالأسباب التي جعلت تلك المآسي ممكنة وعامة ومسكوتاً عنها من قبل السكان المروعين والخائفين من ملاقاة المصير ذاته.

هؤلاء المحررون يشكلون علامة النهاية للحقبة الاسدية المرعبة، لكن ليس من ضمانة على ان حقبة لا تقل رعباً يؤسسها حَمَلة «هم هذه الامة» ممن يبنون «سجون توبة» في المناطق السورية التي خرجت من سيطرة النظام. كسر «القوقعة» مهمة لا تتعلق فقط ببقاء بشار الاسد.