لولا الكباش المذهبي المفتعل، لكاد اللبنانيون ينسون وجود جهاز أمني في لبنان اسمه «أمن الدولة». هذا إذا ما استُثنيت «الإنجازات» الوهمية التي تسرّب قيادة المديرية أخبارها إلى وسائل الإعلام، ليتبيّن لاحقاً أنّها مضخّمة أو لا أساس لها من الصحة، بعدما يُقرر القضاء ترك الموقوفين الذين جَهِد الجهاز في «تسمينهم» عبر اعترافات تُنتَزع تحت الضرب والتعذيب.
وكان اللبنانيون سينسون وجود الجهاز المذكور لولا المحاصصة الطائفية المقيتة، التي سمحت لموظفٍ برتبة مدير عام أن يُقدّم نفسه مدافعاً عن حقوق الطائفة الكاثوليكية أمام «هجمة» باقي الطوائف، ليغطي بذلك تقصيراً عُمره سنوات.
قبل أيام، رفع مدير عام جهاز أمن الدولة اللواء جورج قرعة الصرخة ضد وزارة المالية، ترجمها الوزير ميشال فرعون مؤتمراً صحفياً، متحدثاً عن حرمان الجهاز الأمني من المخصصات السرية وداتا الاتصالات ومنعه من تطويع عناصر يحتاج إليهم. المعزوفة نفسها تتردد، فيما المستجد قحطٌ مالي داخل المديرية استدعى حراكاً سياسياً جديداً، ترافق مع تسريبات إعلامية، مصدرها قيادة المديرية، لتضع الكرة في ملعب النائب ميشال عون في حال انتُخِب رئيساً الاثنين المقبل، بوصفه رئيس المجلس الأعلى للدفاع، مع ما يستتبع ذلك من إيحاءات طائفية.
لماذا لا يزال جهاز أمن الدولة معطّلاً؟
يُقدِّم الوزير فرعون نفسه كـ«متعهِّد» لقضية جهاز أمن الدولة منذ نشوب الخلاف بين قرعة ونائبه العميد محمد الطفيلي (قبل إحالته على التقاعد). غير أنّ وزير السياحة لم يُقدّم قضيته يوماً سوى من بوّابة «حصة الكواتلة». وكأنّ الجهاز جهاز أمني كاثوليكي، لا علاقة لبقية اللبنانيين به. وهو ناشد أخيراً الرئيس نبيه برّي التدخّل لإنهاء «معاناة» أمن الدولة، بعدما بلغ «الشحّ» حدّاً غير مسبوق، إذ إنّ مجموع مبلغ المصاريف السرّية المحجوزة بات يقارب ستة مليارات ليرة. لم يلتفت فرعون إلى المخالفات التي يرتكبها قرعة، كتعميم نتائج اختبارات الترقية من دون العودة إلى مجلس القيادة، مستغلاً شغور منصب نائب المدير، وعدم إصدار تشكيلات لتعيين أمين سر مجلس القيادة. كذلك أنجز تشكيلات الضباط من دون الرجوع إلى رئيسه (نائب رئيس مجلس الدفاع الأعلى رئيس الحكومة تمام سلام). والى ذلك، وقّع على سفر الضبّاط منفرداً بعدما امتنع رئيس الحكومة عن التوقيع. أعاد فرعون ترداد معزوفة حرمان الجهاز من المخصصات السرية، مستعيداً مسألة حرمانه من التطويع وداتا الاتصالات، رغم أنّها تُمنح لباقي الأجهزة الأمنية، متحدثاً عن أن «جهاز أمن الدولة أرسل أكثر من 500 طلب الى نائب رئيس المجلس الأعلى للدفاع، أي رئيس الحكومة، الذي يمتنع عن تحويل الطلبات الى الجهات المختصة». لماذا يفعل الرئيس سلام ذلك؟ ولماذا أجاب سلام الوزيرين فرعون وجبران باسيل لدى سؤالهما عن كيفية إنهاء شلل أمن الدولة بالقول: «أعطوني اسم كاثوليكي لتعيينه وإنهاء أزمة الجهاز»؟
إنتاجية الجهاز بدأت بالتراجع منذ تولّي قرعة إدارته بموافقة جميع الأطراف. هذه اللازمة يكررها ضباط المديرية وعناصرها، مستعيدين أيام اللواء الركن نبيه فرحات. ورغم أن الإمكانات المالية كانت موضوعة بتصرف قرعة، مترافقة مع ضوء أخضر سياسي، إلا أن المقارنة لا يُمكن أن تجوز. عُقدت الصفقات لتجهيز الجهاز بالعتاد والآليات على أنواعها.
ضُبط أحد عناصر أمن الدولة يتعاطى الهيرويين داخل مركزه واتُّهِم بترويج المخدرات
وقُدّر لضباط المديرية أن يُبدّلوا سياراتهم بمعدل ثلاث مرات بين عامي ٢٠١٠ و ٢٠١٦. غير أن أن هذا «الدلال» لم يُترجم إنجازات أمنية، إذ لم يُسجّل لهذا الجهاز أي إنجاز أمني منذ ٢٠١٠ على صعيد مكافحة الخلايا الإرهابية أو شبكات التجسّس الإسرائيلية، وحُصِر عمله بملاحقة ذوي الأسبقيات الجرمية، أي عملياً تنفيذ مهمات تُناط بمخفر في أصغر بلدة نائية. وحتى ما ضجّت به وسائل الإعلام قبل أشهر بشأن توقيف «أمن الدولة» خلايا لـ«داعش» (خلية عاليه مثلاً)، تبين لاحقاً أنها مفبركة، بعدما أُحيل الموقوفون على القضاء ليُتركوا أحراراً، فيما يدرس أحدهم التقدم بشكاوى قضائية ضد ضباط في الجهاز.
أما على صعيد مكافحة الفساد في المؤسسات العامة، وهي من صلب مهمات هذا الجهاز، فإنّ العديد من الضباط والرتباء والعناصر المكلفين بهذا العمل، يرتبطون مباشرة بقرعة، إلا أنهم يقومون بإنجاز معاملات خاصة غير آبهين بما يترتب على ذلك من تمادي الفاسدين بدلاً من ضبطهم.
وبالعودة إلى مسألة المخصصات السرية التي كان يقتطع منها قرعة ١٠٠ مليون ليرة شهرياً لجيبه الخاص من أصل ٣٨٥ مليون ليرة تُصرف للجهاز شهرياً، فحدّث ولا حرج، لا سيما عندما يُصبح السؤال الأهم: أين تُصرف هذه المخصصات وماذا حقّق الجهاز من صرفها؟
رغم إحالة الطفيلي إلى التقاعد منذ أشهر، بقيت الأمور عالقة على حالها. وتعود القصة إلى حادثة الملفات الثلاثة التي أُثيرت في حضور الرئيس سلام. ملف السيارات الأوكرانية، وملف مناقصة الأدوات المتخصصة، بقيمة عشرة ملايين ونصف مليون دولار، بعرض أسعار يتيم، وملف مشبِّه الرمي الصيني الذي كانت تنوي المديرية شراءه بـ٦ ملايين دولار. يومها وقع الخلاف الشهير الذي طرد بموجبه سلام قرعة، لتقف القضية هناك. على أنّ هذا غيض من فيض ما يُمرّر في المديرية، لا سيما في ملف استدراج العروض بأسعار تتجاوز أحياناً الأسعار المعتمدة في الأسواق اللبنانية، فضلاً عن حالات تعاطي المخدرات وترويجها التي سُجِّلت بين صفوف عناصر المديرية. وقد استغرب عدد من ضباط السلك تصويت زميلين لهم في المجلس التأديبي ضد طرد عناصر متورطين في المخدرات لمجرد انتمائهم الطائفي. وكان أحد هؤلاء العناصر قد ضبط وهو يتعاطى الهيرويين داخل مركزه، واتُّهِم بترويج مخدرات. لكن الملف أُقفل من دون التوسّع في التحقيق. إلا أنّ العنصر نفسه أعاد الكرة، فأُجبر المجلس التأديبي على طرده بانعقاد مجلس تأديبي للمرة الثانية. لا تقف المسألة هنا. فقد صدر قرار بنقل الضابط ج. ب. من مركزه لتلقّيه رشى ومخالفاته المتكررة، كالاشتراك في عمليات تهريب على الحدود وإطلاق نار في الهواء من بنادق أميرية بمناسبات عدة، إلا أنه أُعيد إلى مركزه بقرار من المدير العام.
يذكر أن قرعة عمّم قراراً بمنح مكافآت مالية وتهانئ لضباط ورتباء وأفراد من المديرية، معظمهم من «حاشيته»، تراوحت بين ١٥٠ ألف ليرة و ٦٠٠ ألف.