IMLebanon

جسور بلا عبور

صراع النفوذ بين الدول يتشابه في عناوينه الكبرى، وإن كانت طبيعة الأزمات وأسبابها وتداعياتها تختلف. في شرق أوسط ما بعد الحرب العالمية الثانية، برزت مصر الناصرية دولة مؤثرة في محيطها العربي وتعاملت مع الشأن الإقليمي كامتداد لسياستها الخارجية. ولم تقصّر سوريا في محيطها المباشر، لا سيما في لبنان، ولا العراق الذي اجتاح الكويت وألغى الدولة. ولم يهدأ الصراع بين نظامي البعث في سوريا والعراق في الستينيات، وبين مصر والسعودية في حرب اليمن. وفي مراحل سابقة كان للهاشميين في العراق والأردن مشاريع نفوذ إقليمية. والحال عينها تنطبق على المملكة العربية السعودية، لا سيما في محيطها الخليجي. وكان لقطر في السنوات الأخيرة طموحات أزعجت جيرانها، السعودية تحديداً. وبين المغرب والجزائر نزاع حول الصحراء الغربية. ولم تتوقف محاولات القذافي للتمدّد في الاتجاهين العربي والأفريقي.

إيران الإسلامية، كما إيران الشاه، وقبلهما إيران التاريخية امتدّ نفوذها باتجاه العرب والأفغان. السلطنة العثمانية حكمت المنطقة العربية طيلة أربعة قرون. وفي السنوات الأخيرة حاول الرئيس التركي إردوغان إحياء بعض جوانب النموذج العثماني، ناقلاً تركيا من «صفر مشكلات» إلى مشكلات بالجملة في الداخل ومع العراق ومصر وسوريا والاتحاد الأوروبي وروسيا. الجائزة الكبرى في الاحتلال والقمع في المنطقة تنالها إسرائيل. توسعية بالفطرة، لا شبيه لإسرائيل بين الدول المعاصرة لجهة أن وجودها قائم ومستمر على احتلال الأرض وتهجير أصحابها وبناءً المستوطنات.

في التنافس الإقليمي بين الدول، ومنها السعودية وإيران، لا جديد تحت الشمس. إيران الإسلامية انتقلت من «تصدير الثورة» الى تصدير النفوذ في المحيط الإقليمي، ولم تخفِ طموحها في التمدّد، عربياً وإسلامياً. ونسجت تحالفاً استراتيجياً مع سوريا في زمن كانت الرياض أبرز حلفاء دمشق. وفي جديد المعادلة، المصالحة بين إيران والولايات المتحدة، الحليف الغربي الأول والأقدم للسعودية منذ أربعينيات القرن الماضي. وهنا لبّ المشكلة بالنسبة إلى الرياض، خصوصاً أن الرئيس أوباما بدّل سياسة واشنطن تجاه دول الخليج وأبقى الالتزام بحمايتها من أي اعتداء خارجي، إيراني تحديداً.

وللسعودية دور نافذ في المعادلة الإقليمية وفي نشر توجهاتها الدينية وبسط نفوذها في العالم العربي والإسلامي، وهي من مؤسسي منظمة التعاون الإسلامي ومقرها جدة. إلا أن التطورات الإقليمية في السنوات الأخيرة جاءت معاكسة لمصالح الرياض ورغباتها، لا سيما الاجتياح الأميركي للعراق و «الربيع العربي» ومن ثم حرب اليمن، في ظل صراع نفوذ داخلي لم يعد مستوراً.

تسعى السعودية لإقامة تحالف جديد في سياق الاصطفاف المذهبي على امتداد العالم الإسلامي، ركيزته مصر وتركيا، وهما في حالة حرب غير معلَنًة. ففي حين أن القاهرة وأنقرة تجمعهما المصالح مع الرياض، إلا أن القيادة السياسية في كلا الدولتين لا تجمعهما الإرادة في السير في الخط الذي تريده السعودية. الرئيس المصري كان أبرز مقاطعي مؤتمر منظمة التعاون الإسلامي في اسطنبول. أما الجسر الذي سيتم بناؤه بين مصر والسعودية فتقف مفاعيله عند حدود الدولتين، ومن الصعب جَسْر الهوة بين أنقرة والقاهرة ما دامت مصر تتّهم تركيا بدعم الإخوان المسلمين والتنظيمات المتطرفة في سيناء. مصر في قطيعة مع تركيا، بينما تركيا بصدد إعادة وصل ما انقطع مع إسرائيل منذ صدام غزة في 2010.

اما التصدي السعودي للتمدّد الإيراني فيتم بالواسطة، أي برفع العصا في وجه لبنان، وقد يُعتبر الحلقة الأضعف في المعادلة، ببينما العراق وعدد من الدول العربية، ومنها بعض دول مجلس التعاون، لا تلتقي بالضرورة مع سياسة الرياض. بعد حرب اليمن، جاء تطويق «حزب الله» أو عزله باستحضار عروبة متلاشية وشهر سلاح العقوبات الاقتصادية وسواها من إجراءات، وصلت الى حدّ وضع «حزب الله» في خانة الإرهاب. هذه السياسة لن تردع إيران، وهي الآن جسر عبور أساسي في التجارة الدولية في المنطقة، ولا ممارسات «حزب الله» «الإرهابية» في مقاومة إسرائيل والتصدي للإرهاب التكفيري، ولن تؤثر في العلاقات الثنائية بين إيران وتركيا، المحيّدة عن الصراعات الإقليمية.

المفارقة أن تأسيس منظمة التعاون الإسلامي في 1969 جاء رداً على حريق المسجد الأقصى. أما اليوم، وبعد الكلام الرسمي في القمة الإسلامية الأخيرة الداعي الى نبذ الفرقة بين المسلمين وإدانة تدخل إيران في شؤون دول المنطقة، ومن تركيا بالذات التي يبدو أن تدخلها في سوريا والعراق ومصر يقتصر على أعمال الإغاثة، لم يبقَ لهذا الكلام أي وزن وجدوى. هكذا تحلّ إيران مكان الأقصى وفلسطين، قضية مركزية، إلى حين التحرير: إيران الآن وفلسطين غداً… و «أجراس العودة» لن تُقرع