لم يأخذ أمر التباين بين موسكو وطهران وقتاً طويلاً قبل أن يبان ويظهر بكل وضوح ممكن.. وما كان التقريظ غير المسبوق في الإعلام العسكري الروسي لما بقي من «جيش الأسد» ولأداء الميليشيات الإيرانية وتوابعها اللبنانية والعراقية بعد سقوط تدمر في يد «داعش»، سوى رسالة فوق السطوح تبلغ «الحلفاء» بأن لجام حركتهم بعد «انتصار» حلب كان ويبقى وسيبقى في يد سيد الكرملين.
اجتماع موسكو الثلاثي الروسي – التركي – الإيراني هو أول ترجمة مباشرة للمقال الذي نشرته صحيفة «غازيتا رو» عن أداء الجيش الأسدي في تدمر، والإيرانيين وملحقاتهم في غيرها، والذي يقول في خطوطه العريضة الكامنة بين السطور أنه لولا التدخّل العسكري الروسي لما أمكن ذلك الثنائي المهتاج والفالت بأوهامه أن يحقق شيئاً يُذكر.. وبالتالي فإن الحسبة بسيطة: صاحب القوة هو صاحب القرار! وهذا عنده حسابات ومصالح ورؤى أوسع مدى من حدود الجغرافيا الحربية السورية، وأكبر من حسابات السلطة في طهران وتابعها في دمشق، مثلما أنها أكثر واقعية من الاستعراضات الإعلامية للجنرال قاسم سليماني فوق أنقاض حلب!
وذلك يسمح بالافتراض بأن مجريات اجتماع موسكو بالأمس دلقت الكثير من الماء البارد على الرؤوس الإيرانية والأسدية الحارة، والتي ازدادت حرارة وهيجاناً بعد معركة حلب! بحيث أن التأكيد على لسان وزير الخارجية سيرغي لافروف، بأن «لا حلّ عسكرياً« في سوريا، وبأن «التوافق» تم بين الأطراف الثلاثة على «إحياء العملية السياسية» ثم ترداد المنظومة البلاغية عن «دعم سيادة ووحدة أراضي سوريا كدولة ديموقراطية وعلمانية».. ذلك كله يتناقض جذرياً (وظاهرياً على الأقل) مع أناشيد الحسم التي أطلقها القادة السياسيون في طهران على اختلاف مناصبهم واصطفافاتهم، كما مع تلك التي رددها التابع الأسدي «المصرّ» على «تحرير» كل سوريا من «الإرهابيين»!
وواقع الحال يشير إلى أن موسكو لطمت رئيس سوريا السابق على نافوخه مجدداً من خلال تغييبه عن الاجتماع الثلاثي. وتصرفت بواقعية إزاء الحليف الآخر (الإيراني) عندما أجلسته وفق شروطها وسياساتها على طاولة واحدة مع الأتراك، متخطية (بالمناسبة) تداعيات مقتل السفير في أنقرة، ومؤكدة في العموم والتفاصيل، بأن «المعطى التركي» في النكبة السورية، أكبر في الخلاصة، جغرافياً وبشرياً واستراتيجياً وأمنياً، من المشروع الإيراني.. وأنها تأخذ ذلك في الحسبان جدياً وتماماً!
بل أن موسكو ذهبت أبعد من ذلك عندما أكدت اتفاقها مع أنقرة على تنظيم لقاء ثلاثي في الاستانة قبل آخر هذا الشهر يضم المعارضة السورية! كما عندما سرّبت «معلومات» مناقضة للهوى الإيراني – الأسدي، من أنها لن تتصرّف إزاء إدلب مثلما تصرّفت إزاء حلب!
.. لم تتردّد طهران في الصراخ الاعتراضي! وفي القول إنها «لن تقبل» باستبعادها عن اجتماع الاستانة! كما في إبداء توجّسها وتخوّفها من وجود تفاهمات أو اتفاقات سرية روسية – تركية! ما يعني، في واقع الحال، أنها (طهران) تكاد أن تختنق بما سمّي «انتصار» حلب! طالما أنها غير قادرة على تسييله في أي مكان! وطالما أن موسكو تتصرف كما ولو أن تركيا هي التي انتصرت!
.. وكأن لسان حال الإيرانيين يقول: إذا كانت موسكو تتصرّف بكل تلك الرحابة والأريحية والكرم مع أنقرة، فكيف سيكون حالها مع إدارة دونالد ترامب الراغبة بـ»تفاهم» معها في سوريا تحت سقف موقفها القائل بأن إيران وملحقاتها «أخطر» من «داعش»؟!